مشاريع التفتيت.. وخيارات الشعوب

مشاريع التفتيت.. وخيارات الشعوب

تستمر قوى الحرب الإمبريالية وأتباعها الإقليمين والمحليين من صهاينة وحكومات عميلة والفاسدين الكبار المرتبطين بها موضوعياً داخل الدول المستهدفة، في محاولاتها تأخير وعرقلة الحلول السياسية السلمية، ليس للأزمة السورية فحسب بل وكذلك للحرائق المتواصلة من المغرب العربي مروراً باليمن والعراق وصولاً إلى تخوم روسيا وسواحل قزوين والصين عبر «قوس التوتر» ومساحة الجغرافيا التي تقطنها شعوب الشرق العظيم.

يلاحظ أن قوى الحرب لم توفر وسيلة إلا واتبعتها لتحقيق أهدافها في تفتيت واستباحة البلاد، وأهم وسيلتين متكاملتين تستخدمهما اليوم، هما «الإحراق من الخارج» عبر الغزو المباشر أو تصنيع وتسليح وتمويل غزو القوى الفاشية الجديدة بنسخها النازية الجديدة والداعشية، وسياسة «الإحراق من الداخل» عبر افتعال وتأجيج النزاعات الداخلية بين «مكونات» الشعوب، على أسس قومية ودينية وطائفية وغيرها.

تكتيكان لاستراتيجية واحدة

فيما يخص «الإحراق من الخارج» نظراً لصعوبة التدخل الخارجي المباشر في المرحلة الراهنة نتيجة الدور الروسي الصيني من ناحية، ومن ناحية  أخرى يبدو أنّ هزائم «داعش»، باتت القاعدة، وليست الاستثناء، في كل المواقع التي توفرت فيها شروط مقاومتها بشكل حقيقي وجدي، مقاومةً عمادها قوى شعبية ووطنية. ومع «انحسار الاستثمار السياسي بالأذرع الفاشية» بسبب التراجع الأمريكي لدرجة انهيار المشروع الإخواني – من مصر إلى تركيا - كجناح سياسي لتلك الأذرع الفاشية الجديدة، يبدو أنّ مركز ثقل جهود المشروع الإمبريالي الأمريكي – الصهيوني تجري اليوم عملية نقله وإزاحته نحو تكتيك «الإحراق من الداخل»، وهو ليس جديداً، بل اجترار لسياسة «فرّق تسدْ» القديمة، التي عرفتها شعوبنا وأوطاننا منذ اتفاقية «سايكس بيكو» السرية البريطانية الفرنسية بموافقة روسيا القيصرية، للتقسيم الإمبريالي لمنطقتنا بين القوى الرأسمالية الأوروبية المنتصرة بالحرب العالمية الأولى، على حساب الإمبراطورية العثمانية الإقطاعية. 

ورغم نجاح الاستعمار البريطاني والفرنسي بتنفيذ تقسيم «سايكس بيكو» إلا أنّ المشروع اختلف وعدّل في التطبيق عن مخطط الاتفاقية الأصلي، فعلى سبيل المثال لم يكن مخططاً فصل سورية الحالية عن باقي بلاد الشام فحسب، بل وتفتيتها أيضاً إلى أربع دول على الأقل! وكان فشل الاستعمار في الإمعان بالتقسيم آنذاك يعود جزئياً لأسباب داخلية تتعلق بنهوض الشعب السوري ونضاله التحرري الوطني ورفضه لفتن ودسائس الاستعمار الفرنسي، من جهة. ويعود جزئياً لسبب خارجي هام يتعلق بظرف صعود حركات التحرر في المستعمرات، تكامل مع زخم خاص وقيادي من صعود الحركة الثورية العالمية، بقيادة الشيوعين البلاشفة. ومن المعروف أن ثورة أوكتوبر الاشتراكية، والاتحاد السوفييتي المتشكل حديثاً فضحوا سريعاً وبشكل مبكر اتفاقية «سايكس بيكو»، فالاتفاقية التي وقّعت سراً في 16 أيار 1916، وكانت الحكومة الروسية القيصرية طرفاً فيها، سرعان ما فضحت الحكومة السوفييتية أمرها - بعد إصدار لينين مرسوم السلام وحق كافة الشعوب في تقرير المصير – مع جملة معاهدات سرية أخرى كانت قد وقعتها روسيا القيصرية والحكومة المؤقتة مع الدول الرأسمالية الأخرى. فنشرت سبع مجموعات تتضمن نصوص تلك المعاهدات، وأذيع على الملأ أكثر من مئة وثيقة دبلوماسية سرية للحكومات الإمبريالية. وكان من بينها وثيقة «سايكس – بيكو» التي نشرت مع غيرها في كانون الأول 1917 في بيروت.  

الأحداث المتلاحقة في الفترة الأخيرة، والمتنقلة بين شمال سورية وشرقها وجنوبها، بألوان مختلفة من التحريض القومي تارةً والطائفي تارة أخرى، تدل على عودة الإمبريالية إلى سياستها القديمة في التفريق على مستوى أعلى، يحاول تفتيت المفتت وتقسيم المقسم (سايكس – بيكو 2).

ما هو الحلّ وكيف نتفادى التقسيم؟

«إن الحل الوحيد أمام شعوب الشرق العظيم، القاطنة في المنطقة من قزوين إلى المتوسط جغرافياً، والمتآخية على مر التاريخ، والتي تجمعها مصالح اقتصادية عميقة لكونها تشكل فضاءً اقتصادياً متكاملاً.. هو تعميق أواصر التحالف والتآخي والنضال المشترك على مختلف المستويات لإفشال المخططات الإمبريالية القديمة والجديدة.. وصولاً إذا لزم الأمر وسمحت الظروف بتشكيل اتحاد إقليمي يتجاوز حدود الدول القائمة ليوحدها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.. وهذا ما سيضع الأساس للحفاظ  على الحقوق المشروعة لجميع الشعوب القاطنة في هذه المساحة الجغرافية الواسعة في وجه نهب وجشع الاحتكارات الرأسمالية العالمية وفي وجه المخططات الإمبريالية الأمريكية- الصهيونية التفتيتية.»

هكذا رأت اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين (حزب الإرادة الشعبية حالياً) حل المسألة في الموضوعات البرنامجية التي أقرها الاجتماع الوطني التاسع للجنة في دمشق 26/11/2010، انطلاقاَ من تحليلها للوضع السياسي الإقليمي والدولي آنذاك، ولم تكن أحداث «الربيع العربي» قد بدأت بعد، ولاحظت الوثيقة المذكورة أن «حدود سايكس- بيكو الإمبريالية.. يخطط لها الآن كي تكون فضاءً لتفجيرات مختلفة عبر الأخطاء التاريخية المقصودة فيها حينما رسمت خرائطها.»

وبعد بدء الأزمة السورية واتضاح المساعي الجديدة لاستثمار الإمبريالية في هذا الكمون الانفجاري الكامن في فوالق سايكس – بيكو طوّر حزب الإرادة الشعبية رؤيته لحل الأزمة وأدوات هذا الحل لتفادي مخاطر التقسيم في الموضوعات البرنامجية التي طرحها للنقاش العام - أيلول 2013:

«الأزمة الأخيرة وضعت الهوية الوطنية السورية على مفترق طرق إجباري، فإما العودة إلى ما قبل الدولة الوطنية، أو تعميق الانتماء الوطني وتفعيله على حساب جميع الانتماءات الثانوية، الأمر الذي يتطلب موقفا اقتصادياً – اجتماعياً وديمقراطيا متحيزاً بشكل كامل للطبقات المفقرة والمضطهدة، موقفاً يحول الدولة السورية من دولة راعية لمصالح «رجال الأعمال» كما كان حالها في العقد الأول من هذا القرن، إلى دولة للمنتجين الحقيقيين.

ويتبوأ الجيش العربي السوري موقعاً هاما ضمن هذه المعادلة بصفته ضامناً للوحدة الوطنية، الأمر الذي يتطلب حمايته ورص صفوفه بشكل مستمر ومنع أي جهه كانت من تفتيته وإضعافه.

كما أن التراجع العام للعدو الإمبريالي سينعكس تغيرات جيوسياسية كبرى في منطقة الشرق العظيم تفتح الباب واسعاً أمام إعادة النظر بسايكس بيكو على أساس اتحاد شعوب الشرق العظيم وحل القضايا المحقة العالقة كالقضية الكردية ضمن هذا المنطق..»

الكلام يدور حول حلّ على مستوى المستقبل المتوسط ربما، ومن الطبيعي أنّ الوصول إليه يمر عبر خطوات ملموسة على المستوى القريب أولاً، كمرحلة انتقالية. في الأزمة السورية لا يمكن إلا أن تكون هذه الخطوات جزءاً من إطلاق حل سياسي شامل للأزمة السورية وأزمات المنطقة، على أساس المبادرات السلمية وإنهاء الاقتتال العسكري الداخلي بين أبناء الشعب الواحد، للتفرغ إلى عملية مكافحة ما يتبقى من الأذرع الفاشية الإرهابية، وللتفرغ إلى عملية إعادة الإعمار والحياة للسوريين ومستقبلهم، وما تتطلبه من تغييرات ضرورية لبناء نظام يتناسب مع حاجات شعبنا وتاريخه العظيم على كل المستويات السياسية والاقتصادية-الاجتماعية والديمقراطية.

وعلى نطاق أوسع يبدو أن المشروع الإمبريالي التفتيتي لدول منطقة الشرق العظيم يحمل اليوم أهمية مصيرية إنسانية عامة، لأن نتيجة نجاحه أو فشله يترتب عليها خياري البقاء أو الفناء لأحد قطبين متناقضين تناقضاً أساسياً عميقاً بقاء أحدهما يعني فناء الآخر، هما قطب الشعوب من جهة، وقطب الإمبريالية من جهة ثانية. والمشكلة أن بقاء الإمبريالية لن يكون «بقاءً» لأنه سيعني ضمناً استمرار الحروب واندثار الحضارة البشرية!

من الذاكرة الثورية لشعوب الشرق العظيم

تحت اسم «المؤتمر الأول لشعوب الشرق» انعقد في باكو (عاصمة أذربيجان) بين 1 – 7 أيلول عام  1920 مؤتمرٌ تاريخي حضره 1891 مندوباً يمثلون 37 جنسية (من القوقاز، وآسيا الوسطى، وأفغانستان، والصين، ومصر، والهند، وإيران، واليابان، وكوريا، وسورية، وتركية وبلدان أخرى)، ونحو ثلثي هؤلاء (1273مندوباً) شيوعيون. وحول قضيتي القوميات والمستعمرات، عبّر المؤتمر عن تضامنه مع القرارات ذات الصلة التي اتخذها المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية. وناقش المؤتمر القضايا التالية:

(1) الوضع العالمي ومهام شعوب الشرق العاملة.

(2) المسألة القومية والمستعمرات

(3) المسألة الزراعية

(4) السوفييتات في الشرق

(5) قضايا تنظيمية وغيرها..

ولتطبيق القرارات أنشأ المؤتمر «مجلس شعوب الشرق للدعاية والتنفيذ» كجسم دائم تحت اللجنة التنفيذية للأممية الشيوعية.