الحل السياسي.. موضوعياً وذاتياً

الحل السياسي.. موضوعياً وذاتياً

بعيداً عن تلك القراءات والتحليلات والمواقف التي لا تزال أسيرة مقولات «القرن الأمريكي الجديد» و«الانتصار النهائي للرأسمالية» و«أحادية القطب الأمريكي»، فإن معطيات السنوات الأخيرة الماضية، التي يبرز فيها اتساع مروحة النشاط الإطفائي الروسي لبؤر التوتر والتوتير أمريكية المصدر، من أوكرانيا وحتى قلب أفريقيا، تثبت مجدداً حقيقة أن التراجع الأمريكي مستمر، بغض النظر عن الهجمات المعاكسة التي تشنها واشنطن بلبوس وأشكال مختلفة في ساحات

عديدة، من شاكلة إنشاء تحالف هش وأعرج وغير شرعي في مواجهة داعش، إلى حرب التلاعب بتسعير النفط، مروراً بالعقوبات الأمريكية والغربية المتعددة بحق موسكو.
وإن من ضمن ما يعنيه ذلك هو أننا أمام مرحلة جديدة في تمظهر وتثبت ميزان القوى العالمي الجديد يتم فيها بعد احتواء مفاعيل الهجوم الأمريكي المضاد استكمال تحضيرات المرحلة الثانية من هذه العملية، والتي تنبئ بتقدم كل خصوم واشنطن، وليس روسيا فحسب.
وقد ظهرت معالم المرحلة الجديدة في جملة من المسائل والقضايا، التي ما يعنينا منها بشكل مباشر اليوم إحراز تقدم لا عودة فيه في الملف النووي الإيراني يثبت حق طهران في امتلاك برنامج نووي سلمي بكل مكوناته، وفي الجهود الروسية المتجددة لحل الأزمة سياسياً في سورية مع ما يرافق هذه الجهود من تحولات على ثلاثة مستويات متعددة من اصطفاف جديد للقوى على أساس الحل السياسي وانضباط هذه القوى باتجاهات هذه الجهود وعدم ممانعة هذه الجهود ذاتها من القوى التي كانت تعرقل جهوداً مشابهة على امتداد عمر الأزمة السورية إلى اليوم، والتي تقف في مقدمتها إلى جانب قوى الفساد والإرهاب والتشدد في الداخل دول إقليمية معروفة كشفت عن عدائها للشعب السوري أولاً. ولكننا اليوم نشهد زيادة في انتشار الحديث المستمر عن الحل السياسي واحتمالاته ومخارجه وخرائطه لدى كل أطراف الصراع داخل سورية وعليها، بما فيها تلك الطروحات التي تتناول تفعيل نشاط حتى المبعوث الدولي الجديد لسورية و«مبادراته» لتجميد النزاع في أماكن معينة كنقاط انطلاق نحو الحل المطلوب.
وإذا كانت المرحلة الأولى من انعكاس التغير في ميزان القوى الدولي إقليمياً قد شهدت تغييرات في تموضع بعض القوى المفتاحية عربياً مثل مصر، فإن المرحلة الجديدة ستشهد انزياحات في تموضع المواقف السياسية التقليدية لقوى مؤثرة في المنطقة، مثل تركيا وربما بعض دول الخليج، لكي تنسجم مع مصالحها الحيوية ومواقعها واصطفافها الجغرافي في الشرق، كتعبير عن تمظهر ميزان القوى الدولي وضروراته الموضوعية، ضمن عملية لن تتوقف تداعياتها إقليمياً، بل ستمتد إلى أوربا والعالم بأسره، وإلا فإن من سيواصل ممانعته فسيرتد الأمر عليه مهدداً كل وجوده الحالي (ولنأخذ على سبيل المثال الانعكاسات المحتملة لإغلاق روسيا لخط السيل الجنوبي الناقل للغاز إلى أوربا).
 إن ما يهمنا في سورية من كل ذلك هو أن ما نشهده هذه الأيام يسمح بالتفاؤل حول إمكانية تقدم الحل السياسي في سورية نحو مستوى جديد لإطلاق طريق الخروج من الأزمة الشاملة والمتراكبة والمعقدة التي تعيشها. وإن خلاصة هذه المسائل بمجملها تعني أن الظرف الموضوعي للحل أصبح أكثر نضجاً، بما فيه الإنهاك الحاصل لدى القوى الإقليمية المعرقلة والمعادية، وكذلك الظرف الذاتي بمعنى بدء تبلور الطرف المعارض المستعد للحل السياسي والمرحب به والجاهز للحوار على أن يكون جدياً وندياً وشاملاً ومفضياً للتغيير المنشود، بحيث لن يبقى معرقلاً إلا بقايا المعاندين دولياً وإقليمياً وداخلياً من قوى التشدد والفساد. ولذلك يبقى المطلوب من كل القوى الوطنية، أن تدرك الوقائع القائمة وتثبت وطنيتها بالترفع عن حساباتها الذاتية والضيقة لأن وضع البلاد ومعاناة السوريين أصبحا في مرحلة حرجة ومأساوية للغاية بكل المقاييس والمستويات والصعد.