الحوار السوري عبر أية «مادة ثامنة»..؟

الحوار السوري عبر أية «مادة ثامنة»..؟

بعد 23 شهراً على اندلاع الأزمة الوطنية الشاملة في سورية، وإثبات الواقع الفعلي، لا المكابرة، عقم الحلول والخيارات الأمنية والعسكرية فيها، يتعاظم يوماً بعد يوم ميل المزاج السوري العام نحو الحوار بوصفه أداة ووسيلة رئيسية تخدم هدف الوصول إلى الخروج الآمن من الأزمة.

بمعنى الحفاظ على الدولة السورية وحقن دماء جميع أبنائها، وذلك بغض النظر، الآن، عن توقيت الحوار وشكله وآلياته والمآلات المنشودة منه على اعتبار أن ذلك يخضع لموازين القوى الداخلية والإقليمية والدولية، وتنازع مصالح مختلف الأطراف السورية المعنية باختلاف مواقعهم ومصالح من يمثلون أو يدعون تمثيله.

وإذا كانت المؤشرات على طلب الحوار موجودة أساساً لدى الشرائح المغيبة أصواتها، أو ما كانت تسمى بالأغلبية الصامتة، التي لم تنخرط مباشرة في الصراع الدائر، بل غالباً ما كانت ضحية له ولمنعكساته الخطيرة، ولدى القلة القليلة من القوى السياسية، كحزب الإرادة الشعبية منذ اللحظة الأولى، فإن المؤشرات ذاتها بدأت تظهر لدى بقية أطراف الصراع السياسي والميداني داخل النظام وداخل المعارضات المختلفة بشكل أو بآخر، ليس كمنِّة أو فضل، كما يجري تصويره في الماكينات الإعلامية المتصارعة لدى الطرفين، بل كتحولات ناتجة عن بدء ادراك هؤلاء للمعطيات والموازين آنفة الذكر، لسبب أو لآخر.

اللافت في الموضوع هو التباين والتناغم في ذهنية هذه الأطراف المتناقضة في تعاطيها مع قضية باتت محورية وجوهرية، ودائماً بوصفها وسيلة لا هدفاً بحد ذاته، هي الحوار. فالتباين يتجلى في محاولة كل طرف «جر البساط لطرفه»، والتناغم يبرز في اعتمادهما لمضمون «المادة الثامنة» الموجودة في الدستور السابق والمستمرة في مفاعليها، مقابل «المادة الثامنة» الجديدة التي لا تزال تشق طرقاتها الأولية، أي أسلوب الوصاية وحصرية «تمثيل الشعب»، بما يزيد في نهاية المطاف من مشروعية التخوفات التي نطلقها من اعتماد البعض هنا وهناك للخطة «ب»، أي الاستمرار بتضييع «حقوق الشعب».

وحتى الآن يبدو أن الحوار القادم لا محالة يسقط مرحلياً ضحية ذهنيات مختلفة ذات أجندات متباينة بطبيعة الحال: ذهنية بعض القوى داخل النظام التي تأخذ زمام المبادرة وتريد إعادة إنتاج النظام بشكله السابق، وذهنية أصحاب «الخطة ب» القائمة على «التفاوض» وتغيير الوجوه وإعادة اقتسام الكعكة بين الناهبين والفاسدين في النظام والمعارضة وتضييع دماء عشرات آلاف الشهداء السوريين من مدنيين وعسكريين، وذهنية المتشددين في طرفي الصراع الذين يعرقلون المزاج العام ومنطق التوجه للحل بغية تحسين مواقعهم «التفاوضية» بعد فشلهما في «معركة كسر العظم» ميدانياً واستمرارهما بها فكرياً، وذهنية المقتنعين وأصحاب المصلحة بضرورة إنجاز مرحلة تاريخية جديدة في البلاد وبناء نظام جديد حقاً.

بالملموس نجد أن إعلام النظام وحكومته يتحدثان مثلاً عن تحديد القوى المشاركة، وعن تشكيل «لجان للحوار» برئاسة المحافظين وعضوية أمناء فروع حزب البعث، دون أن يعلن ما إذا كان ذلك بوصفه أكبر الأحزاب السياسية في البلاد عدداً، أم لأنه بالنص الدستوري السابق «القائد للدولة والمجتمع»..! ونجد وزارة الداخلية تتحدث عن ضمانات عودة «المعارضين» الراغبين في الحوار، وعن تسهيلات لوجستية لعودة المهجرين، في الوقت الذي تستمر فيه الاعتقالات المنظمة، وأحياناً العشوائية على الحواجز، ناهيك عن تلك التي تجري في دوائر الدولة بتهمة، مثلاً، «التعاطف مع الإرهابيين» أو «تصفح تنسيقيات» حسب القانون الجديد، لتضاف إلى الأسوأ في الوضع الميداني المتمثل في قنص أو قتل المدنيين وعمليات الاختطاف والمجازر متبادلة الاتهام بالمسؤولية.

في المقابل تنفخ الأبواق الإعلامية والسياسية في «المبادرات» التي تطلقها بعض «معارضات الداخل والخارج» باتجاه الحوار، وسلسلة الشروط والتنازلات «المفترضة»، ودائماً وسط تصوير من يغطي هذه «المعارضات» سياسياً بأنها «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب السوري، أي العقلية الوصائية الإقصائية الشوفينية نفسها في تصوير فكرة «التكرم» و«التنازل» كرمى لعيون السوريين، أي المواطنين العاديين الذين لم يتحدث أحد، لا من هنا ولا من هناك، من سيمثلهم حقاً وكيف سيجري تمثيلهم في الحوار المطلوب، وفي الوقت الذي تتعارض فيه عقليات التهليل والتهويل، والإقصاء والتخوين، والاعتقال والقتل والابتزاز والترهيب مع ضرورات تحضير أجواء الحوار، وفي مقدمتها الثقة به وبجدواه، وتنفيس الاحتقان في الجو العام، وفي الوقت الذي ينبغي فيه تعزيز الحالة التفاعلية والتشاركية والندية، اي الحالة الديمقراطية لدى المكونات السياسية للسوريين، كل حسب حجومه وتأثيراته الفعلية، وفي الوقت الذي ينبغي فيه استقطاب حتى المسلحين السوريين القابلين للحوار، بهدف إقصاء المتشددين في صفوفهم، من أية جهة كانوا سواء في المعارضة أم في النظام، كون لا مشروع وطنياً وسياسياً لدى هؤلاء المسلحين المتشددين يخدم عموم السوريين، بل يخدم فسادهم المختلف شكلاً، والموحد بالمضمون.

إن ما تحتاجه سورية، خلال وبعد حلحلة الأزمة، وإنجاز مهمتي حقن الدماء والمصالحة الوطنية بعناوينهما وأدواتهما التفصيلية، يتمثل في الحفاظ على وحدتها الجغرافية والشعبية وسيادتها الوطنية، ومصالحها الوطنية في فضائها الجغرافي السياسي، ومصالح شرائحها الشعبية الأوسع، بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي، أي تفكيك منظومات الفساد والقضاء عليها، أي سيادة وطنية وعدالة اجتماعية ومساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وأمام القانون، أي أيضاً تمثيل شعبي بالمصالح الطبقية والسياسية، والمضامين والأشكال والأدوات والهياكل الديمقراطية والمحاسبية المترتبة عليها والمخدمة لها، أي في نهاية المطاف، كل ما يختزله شعار كرامة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار..!