الافتتاحية:نحو إصلاح شامل وجذري!

الافتتاحية:نحو إصلاح شامل وجذري!

طوت الانتفاضة الثورية المصرية صفحتها الأولى، وهي ماضية في صفحتها الثانية.. ولكن آثار ما أنجزته له أبعاده الهامة؛ التاريخية، العالمية، والإقليمية، والداخلية فيما يخص مستقبل الشعب المصري نفسه..

ـ تاريخياً: هي بلا مبالغة، من التحركات الثورية القليلة التي أيقظت مجموع الجماهير، وحرّكتها في اتجاه واحد، وهي في طاقتها المختزنة التي تفجرت شعبياً ستُذكر دائماً إلى جانب ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى والثورة الإيرانية.

ـ عالمياً: كانت معلماً هاماً ونتيجةً لتفاقم الأزمة الرأسمالية العظمى اليوم، وما تحمله من آفاق مسدودة ومن تدهور لأوضاع كل شعوب العالم، وبالأخص تلك التي تعتبر تاريخياً على أطراف المراكز الرأسمالية الكبرى.

ـ إقليمياً: ونتيجةً لوزن مصر الجغرافي- السياسي، ولوزنها المعنوي- الثقافي، لا يمكن أن تمر أحداثها دون تداعيات على المديين القصير والمتوسط. ابتداءً من تأثيرها على مستقبل الصراع العربي- الإسرائيلي، وانتهاءً بالدروس المستخلصة من تجربتها الاقتصادية- الاجتماعية التي أدت إلى انفجار اجتماعي عظيم.

وفي مجال تحليل ودراسة تداعيات الأحداث المصرية على منطقتنا، فإن الدرس المستعجل الذي لا يقبل التأجيل هو ضرورة المراجعة الشاملة لكل السياسات الاقتصادية- الاجتماعية المتبعة داخلياً.

فالنموذج المصري المنهار أثبت الأمور التالية:

• أن انسحاب الدولة من دورها الاقتصادي- الاجتماعي يؤدي إلى كوارث.

• أن تمركز الثروة وتوسع الفقر يوصل الاحتقان الاجتماعي إلى ما لا تحمد عقباه.

• أن أرقام النمو العالية نسبياً، المعلنة، لا تشكل بحد ذاتها ضمانةً للاستقرار الاجتماعي، بل إنها، مترافقةً مع ازدياد تمركز الثروة، تؤدي إلى الإخلال جدياً بهذا الاستقرار.

• أن تدني مستوى ممارسة الحريات السياسية للجماهير الشعبية، يطلق يد قوى الفساد التي تصول وتجول حينها عابثةً بكل مقدرات البلاد ومهددةً أمنها الوطني.

• وأن قوى الفساد هذه تحديداً التي تقوم بالنهب الواسع لخيرات البلاد هي نقطة ارتكاز قوى الرأسمالية العالمية داخلياً وحاملة مشاريعها المختلفة، وفي الحالة المصرية كانت حاملةً لبرنامج الخيانة الوطنية الذي أهان الشعب المصري وجيشه منذ كامب ديفد حتى اليوم.

لاشك أن هناك من سيقول إن سورية ليست مصر.. نعم إن سورية ليست مصر،  تماماً مثلما أن مصر ليس تونس.. فكل بلد يختلف عن الآخر بملامح خصوصياته، ولكن دائماً يمكن التفتيش عن العام وتحديده وتدقيق الخاص بكل بلد ورسم حدوده.

فسورية ليست مصر في القضية الوطنية، وفي مواجهة المخططات الأمريكية- الإسرائيلية، منذ كامب ديفد حتى اليوم.

فالطغمة الحاكمة المصرية حولت مصر إلى حليف وتابع علني للمشروع الأمريكي- الصهيوني الذي كان يستهدف فيما يستهدفه في منطقتنا سورية نفسها، وإرادتها الوطنية، ومواقفها الممانعة والمؤيدة للمقاومات الوطنية في لبنان وفلسطين والعراق.

أما في القضية الاقتصادية- الاجتماعية فإن سورية ليست مصر، اللهم من زاوية واحدة وهي عمر المشروع الاقتصادي الليبرالي ودرجة استفحاله ومقدار الأضرار الاجتماعية التي تسبب بها.

فالمشروع الليبرالي الاقتصادي في مصر سار خطوةً خطوة بمسار مواز لمشروع الخيانة الوطنية منذ السبعينيات من القرن الماضي، ووصل اليوم بعد أربعين عاماً تماماً إلى نهايته المنطقية.

أما عمر المشروع الاقتصادي الليبرالي في سورية، الواضح المعالم، فلم يتجاوز العقد الواحد من الزمن، ولم يستطع بعد- بفعل عامل الزمن- أن يلحق تلك الأضرار الاقتصادية- الاجتماعية التي حققها في مصر، آخذين بعين الاعتبار إلى جانب ذلك أن هذا المشروع في مصر لم يلاق مقاومةً تذكر في جهاز الدولة خلال عقديه الأولين، ولم تكن مقاومته في المجتمع آنذاك عالية المنسوب، أما في سورية فإن هذا المشروع خلال مساره لاقى مقاومةً هامة في جهاز الدولة ومقاومةً أهم في المجتمع.. ما أربكه وأخّر جداوله الزمنية، والحمد لله.

والحال هكذا، آخذين بعين الاعتبار التجربة المصرية ومسار التجربة السورية نفسها، وانطلاقاً من الضرورات الوطنية العليا، في لحظة يشتد فيها سعار قوى الإمبريالية والصهيونية في منطقتنا، فالمطلوب من المراجعة الشاملة للسياسات الاقتصادية- الاجتماعية أن تبدأ فوراً بإصلاح جذري شامل يطال سياسة الأجور والضرائب والاستثمار وصولاً إلى صياغة النموذج الاقتصادي الجديد المطلوب للاقتصاد السوري كي يتمكن من حل قضيتي النمو والعدالة معاً، ما يصلب وحدة سورية الوطنية ويزيد مناعتها الداخلية، ويرفع منعتها الخارجية..

إن كل ذلك أصبح اليوم مستحيلاً دون مستوى جديد للحريات السياسية يستفيد منه بالدرجة الأولى أصحاب المصلحة في هذا الانعطاف الوطني الاجتماعي، ما سيسمح بتكون ذلك الفضاء السياسي الجديد، البديل، والضروري لحماية نتائج الإصلاح الجذري الشامل الذي يجب أن يقيّد ويهزم قوى الفساد والنهب، وكذلك السياسات الاقتصادية- الاجتماعية التي مكّنتها خلال الفترة الماضية.

إن التاريخ ما يزال يتيح الفرصة للقيام بذلك، ولكن هذه الفرصة ليست مفتوحةً للأبد، وإذا فُوّتت في المستقبل الزمني المنظور فإن وضع الأمور على سكتها الصحيحة بعد ذاك سيكون أصعب، وسيحمل آلاماً أكبر، وسيتطلب وقتاً أطول، ناهيك عن المخاطر التي سيسببها ذلك على مقومات صمود سورية.

إن الساعة قد دقّت للقيام بخطوات شجاعة جريئة لمصلحة البلاد ومصلحة الجماهير الشعبية، باتجاه التغيير الجذري للسياسات الاقتصادية الاجتماعية شكلاً ومحتوى.. وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.