نفحات وطنية : يا أيها الرجال

نفحات وطنية : يا أيها الرجال

أحببت نزار قباني منذ أول ديوان شعر قرأته له «طفولة نهد» وتابعت قراءته طيلة عمري، وأعتقد أنه كان الرسول الذي جمع بين  قلوب مئات آلاف الشباب وأن شعره ما يزال يفعل الكثير في نفوسهم، لكنني لست الآن بصدد الحديث عن شعره العاطفي، وإنما أنا في صدد الحديث عن التاريخ والسياسة في شعر نزار قباني

إن نزاراً ككل العباقرة أحبه كثيرون، وكرهه كثيرون ولأسباب مختلفة وهذا طبيعي في الناس... أحبه كثيرون وأنا منهم لأنه تجرأ على أن يعبر بصراحة وصدق من الناحية العاطفية في البداية منذعام 1942 ثم من الناحية السياسية في النهاية منذ عام 1967 وبجرأة لم يسبقه إليها أحد، فكسر القيود والسدود وقال ما يفكر فيه الناس وما يفعلونه، ولكنهم لا يجرؤون على البوح به.

آمن نزار مبكراً أن الشعر والثورة وجهان لمسمى واحد، لأنه امتلاء بالشمس أراد أن تكون حروفه غضباً يسطع، وبكل عفوية الشاعر الثوري اختار أن يعيش بين الجماهير ومعها، يخاطبها ببراءة الطفل، وتفهمه ببراءة الطفل، رفض أن ينام كالآخرين على الساحل فرفض الغربة والعزلة وأصر على أن ينام في ضمائر الجموع. الناس عنده هم البداية والنهاية. وإذا كانت الثورة تفجيراً للشموس... ممارسة عنيفة للفرح فإن نزاراً هو شاعر الفرح الكبير. إنه كان، منذ كان، يداً في الصلصال ويداً على الغد الأجمل، وإن كان لا يمكن فصل شعره السياسي عن شعره العاطفي فشعره سياسي بامتياز، شعر يشرح ويفضح السياسة الداخلية والخارجية للوطن العربي وحكام الوطن العربي في القرن العشرين، سياسة الطبقة الحاكمة العربية ومن يقف خلفها ويدعمها داخلياً من رجال مال وأعمال ودين وفكر، من ماسونيين ومتاجرين بالوطن وأصحاب «بابيونات وعقل» ومن يقف خلفها ويدعمها خارجياً من رجال سياسة وسفراء وجواسيس من عهد لورنس إلى عهد برايمر وفيلتمان وسلمان خليل زادة، وسيظل شعره يفضح عجز هذه الطبقة الحاكمة وارتباطاتها السرية والعلنية بالعدو الخارجي ارتباط العبد بسيده، ويفضح خداعها لشعوبها. سيظل شعره شعرا تاريخياً بامتياز.. مغموراً بالتاريخ، تحدث فيه عن ماضي العرب كبناة حضارة إنسانية رائعة، عن أبطالهم وعلمائهم وفلاسفتهم وعن انتصاراتهم.    
سيظل شعره يرعب الظالمين والمستبدين والخونة والأنانيين والانهزاميين والرجعيين والفاسدين، سيظل يرعب الأعداء، وأخيراً وسيظل مصدراً يسهم مستقبلاً في كتابة تاريخ القرن العشرين من وجهة نظر الجماهير الشعبية.

ولو كنت معنياً بتوحيد العالم العربي، بحشد كل طاقاته لخدمة شعوبنا لتصبح قوة سياسية وحضارية لطبعت كل قصائد نزار السياسية/ التاريخية ووزعتها مجاناً على شباب العالم العربي من الخليج إلى المحيط لأوحّد مشاعرهم وأشحن وجدانهم ولأنفخ في جمرة الغضب التي تتقد في جوانح كل منهم لتصبح لهيباً ينير دروب المستقبل. وأقدم نصيحة لمن يستطيعون: ترجموا أعمال نزار السياسية التاريخية كاملة إلى مختلف اللغات الأجنبية، ليعلم الجميع، أصدقاء وأعداء، أن هذا الشعر هو تعبير حقيقي عن مشاعر جماهير وطننا، وليعرفوا أنها لن تستسلم وأن الأمل سيظل يدغدغنا ويعمل على شحننا وتعبئتنا لنحرر أرضنا ونستعيد حقوقنا، ونعمل لقيام وطن حر وشعب سعيد. إن قراءة قصيدة واحدة لنزار في التاريخ والسياسة كفيلة بجعل الناس ينفعلون، أما إذا ما قرؤوا كل قصائده فأخشى أنهم سيفعلون كما فعل البلجيكيون حين نزلوا إلى الشوارع عام 1830 لدى خروجهم من مسرحية وطنية...!

من محاضرة للباحث الأستاذ محمد زهير ناجي تحت عنوان (التاريخ والسياسة في شعر نزار قباني)