افتتاحية قاسيون 634: «ديمقراطيو» سورية وسياسيوها..  زوايا الرؤية وسرابها، ضياع الرؤيا وصوابها!

افتتاحية قاسيون 634: «ديمقراطيو» سورية وسياسيوها.. زوايا الرؤية وسرابها، ضياع الرؤيا وصوابها!

يتواصل في المشهد السياسي والميداني السوري منسوب تبادل الاتهامات وتراشق النعوت بين مختلف مكوناته على الأسس التضليلية الوهمية نفسها التي ساهمت بإيصال البلاد إلى ما هي فيه من أزمة مستعصية. وتتوالى التوصيفات تحديداً بين ما يسمى بالمعارضة الخارجية والمعارضة الداخلية: «نظام، ابن النظام، تصنيع نظام، بديل للنظام، مناوئ للنظام، مؤيد للنظام للعظم، يمين النظام، يسار النظام، داخلي- خارجي، موالٍ، خائن، عميل، متآمر، مندس، تحريضي، مسلح، مسالم، صامت، ناشط، طائفي، طائفي مضاد، الخ...»، علماً بأن الفرز الحقيقي يبقى «وطني/ لاوطني»، وتحدده زاوية رؤية طيف القوى السياسية السورية القائمة والناشئة بعضها لبعض، ولجملة القضايا الجوهرية السورية، بين منظور هندسي بسيط ثنائي الأبعاد، أو هندسي فراغي ثلاثي الأبعاد.

بكلام آخر، إذا كانت العناوين الثابتة للمسألة السورية هي القضايا الوطنية، والاقتصادية الاجتماعية، والديمقراطية، فإن زاوية الرؤية الهندسية المستقيمة البسيطة ذات البعدين تضيّع الرؤيا بين من يقف على يمين النظام في الداخل والخارج ومن يقف على يساره بخصوص كل من هذه القضايا، في حين أن الرؤية ثلاثية الأبعاد تسمح بتحديد دقيق يكشف كل الأقنعة التمويهية، ويبدد كل السحب الدخانية حول القضايا ذاتها.

باعتماد البصيرة ثلاثية الأبعاد، أين تقف قوى المعارضة المتمركزة بالداخل بالنسبة إلى مواقع ومواقف النظام، وأين تقف قوى «المعارضة» المتمركزة أساساً بالخارج، والتي «تزاود» على الطرفين الآخرين بالدرجة الأولى بفضل الماكينة الإعلامية الغربية والنفطية، من تلك المواقع والمواقف؟

في المسألة الوطنية، أي موقع سورية ودورها وتحالفاتها المعتمدة لمصلحتها ومعاداتها لمشاريع الهيمنة الاستعمارية والصهيونية ومسألة عودة جولانها، فإن الأكثرية بالنظام تتمسك بهذه القضية بغض النظر عن عمومية الدوافع من عدمها، في حين أن المعارضة «الداخلية» تقف على يساره بوضوح وهي قريبة منه بهذا الخصوص نسبياً، في حين أن المعارضة «الخارجية» تقف على يمينه (التصريحات الواضحة والملتبسة لبرهان غليون في فيينا مؤخراً)..!

في المسألة الاقتصادية- الاجتماعية، لا يزال الفرز في صفوف النظام مستمراً ومتصاعداً بين من يستشرس للإبقاء على منظومة الفساد وما أنتجته من ليبرالية اقتصادية وقمع يحميها، ومن يريد استعادة دور ما للدولة  دون أن يتحقق له شيء فعلياً، أي أن السياسات لا تزال تلك الموروثة من الحكومات السابقة في العقد الماضي، بينما تقف المعارضة «الداخلية» على يسار النظام لجهة طرح نموذج اقتصادي جديد يحقق أعلى نمو، وأعمق عدالة اجتماعية، ويفكك بنى الفساد الكبير، في حين تتشابه قوى المعارضة «الخارجية» مع النظام في لبرلة الاقتصاد ولم يتحدث أي فصيل منها عن هذه المسألة جدياً وشمولياً، مع كل ما يتضمنه ذلك من مخاطر اجتماعية، تبدأ من الأمن الغذائي والمائي ولا تنتهي بالأمن الوطني، كما يتجلى حالياً..!

في المسألة الديمقراطية، هناك ضعف فرز حول هذه المسألة في صفوف النظام الذي يعتمد الحلول الأمنية أولاً وشبه أخيراً في ظل تباطؤ وضعف تصريحاته وخطواته العملية في هذا المجال، بينما تقترب قوى المعارضة «الخارجية» من قوى المعارضة «الداخلية» في هذا الطرح، ولكن هذا الاقتراب هو «وهمي» و«تضليلي» و«استعراضي» بهدف التمويه على يمينية مواقفها وتباعدها بخصوص القضايا الوطنية والاقتصادية الاجتماعية، وبالتالي على نسف الجوهر الحقيقي لإدعاءاتها «الديمقراطية» الكبرى والمجلجلة، وهي بذلك، ومن اتخاذها لسلوك النظام وعدم اعتياده تاريخياً وحالياً على التعاطي الديمقراطي الحقيقي وتجريمه إعلامياً وأمنياً لمفردة «حرية» وتسخيفه إياها، حجة وذريعة، تخلق صورة نمطية كاذبة، وتطلق قنابل دخانية تغطي على لا وطنية مواقف تلك المعارضة بالمعنى الدياليكتيكي العميق، ولاسيما أن ديمقراطيتها المزعومة تقوم على نفخ الروح في مكونات ومفردات ما قبل الدولة الوطنية من دينية وعرقية وطائفية الخ.. وبما يكشف أيضاً سر تلاقيها وتلاحمها وتوحيد أطرها («يساريين سابقين» وليبراليين وإسلامويين وفاسدين منشقين) بعد شد وجذب سابق، كونها لا تختلف فيما بينها بالقضايا الوطنية والاقتصادية الاجتماعية، وتتقاطع مع الطرفين الآخرين كلامياً أو فعلياً، بل وتنظر للمعارضة «الداخلية» وتقيمّها من خلال النظام، كونها ترى الأمور بخط مستقيم، غير فراغي، أي ترى النظام ثم ترى المعارضة، وتوظف كل ذلك في تضليل الرأي العام السوري، ودائماً عبر القنوات الغربية والنفطية سياسياً وإعلامياً وميدانياً.

فماذا يعني كل هذا التشخيص؟

معناه، أن انتزاع القضية الديمقراطية اليوم من هؤلاء وكشف «لحافها» عنهم كفيل بتعريتهم مع مواقفهم اللاوطنية، وامتصاص كل الغبار الذي يثيرونه، وهذه مسؤولية تقع بالدرجة الأولى على كاهل النظام، أو بالأدق على كاهل من يصنفون أنفسهم كوطنيين في صفوفه ليتولوا مهمة صعبة غير مألوفة لدى تركيباته وبناه، تتمثل في إطلاق «تعبيرات أوضح» واتخاذ «إجراءات أعمق» في المسألة الديمقراطية، أي إحداث سلسلة تغييرات وإصلاحات ديمقراطية سريعة في القول والسلوك تحمل أيضاً مضموناً اقتصادياً اجتماعياً بالمعنى الوطني.

اليوم، إن الديمقراطية التي تحمل «شهادة منشأ سوري» أو «صنع في سورية» ستشكل الرد التاريخي على كل القوى التي تريد الاستقواء على سورية بالخارج، وهي تعد في الوقت ذاته مسؤولية تاريخية على عاتق كل القوى التي ترفض الاستقواء على الشعب بالداخل وتريد بقاء سورية وطناً وشعباً، وهذه الديمقراطية تشمل عدداً من الإجراءات والتعبيرات التي ينبغي أن تكون واضحة، لا لبس ولا التفاف فيها، في الدستور الجديد المرتقب، وانتخابات مجلس الشعب، وانتخاب الرئيس، وآنياً في تغيير سلوك إدارة الأزمة بما يسهم بمجمله في استعادة ثقة الأجزاء الكبرى من الشعب، وإعادة تكريس الثقة الاجتماعية البينية ضمن النسيج السوري الواحد الموحد، على اعتبار أن روح النص الدستوري تقول إن السلطة دستورياً هي الشعب بلا وصاية من أحد ولا وكالة أحد، وفي ذلك ضمانة لكرامة الوطن والمواطن.