جنيف2 بين الحياة والموت

جنيف2 بين الحياة والموت

بدرت من ائتلاف الدوحة ومن البعض في هيئة التنسيق في الأيام القليلة التي سبقت انطلاق مؤتمر جنيف2 عدد من المواقف والسلوكيات المتشنجة والمتقلبة والمرتبكة، لم تمر دون انشقاقات وتصدعات جديدة. رأى البعض فيها تعبيراً عن «براعة مفيدة» في المناورات الدبلوماسية، في حين رآها البعض الآخر «تشرذماً ضاراً»، ونظر إليها آخرون على أنها مجرد تعبير عن صراع استباقي على «حصة المعارضة من الكعكة».

بتجاوز المدلولات الآنية والمؤقتة لتلاطم أمواج المعارضة على شواطئ جنيف، والنظر إلى عمقها أعتقد بأننا سنجد أنفسنا أمام أحد تجليات ما يمكن اعتباره «قلقاً وجودياً» تستشعر به أجزاء من المعارضة بسبب خيارات ذاتية جعلت أمر حياتها وموتها - سياسياً - مرتبطاً موضوعياً بالمعادلة الدولية للحل وبالأوزان الدولية والإقليمية لمفرداته، ودور هذه الأوزان في سورية والإقليم والعالم مستقبلاً، الأمر الذي قد يفسر جزئياً «عقدة» تمثيل المعارضة. 

إذاً فالمؤتمر الدولي الذي يمثل بالنسبة للشعب السوري الممر الإجباري الوحيد لحل أزمته الوطنية العميقة، يمثل بالنسبة لبعض المعارضة شيئاً آخر. إنّه بالنسبة لهم قضية تقرير مصير وجودهم المستقبلي، وربما الراهن، بوصفهم «قوى سياسية»، وغني عن الملاحظة أنّ ذلك يمثل همّاً وقضية مماثلة أيضاً لأجزاء من النظام. إنّه القلق الوجودي للفضاء السياسي القديم.

إنّ رؤية «جنيف2» على هذا النحو من جانب مكونات الفضاء السياسي القديم تحمل معها مشكلتين أساسيتين: تتعلق الأولى بمدى التزام أصحابها بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية المتعلقة بضرورة انطلاق ونجاح المؤتمر، حتى لو لم تكن انطلاقته مثالية، وذلك بوصف أية بداية على طريق حل الأزمة السورية المدوّلة باتت ومنذ زمن طويل ضرورة موضوعية ملحة لوقف نزيف الدم السوري وبدء معالجة الكارثة الإنسانية بأسرع ما يمكن، فأرواح السوريين وما تبقى من مقومات مستقبلهم أهمّ وأجدر وأحقّ بالحفاظ عليها من أية مكاسب حزبية ضيقة يمكن جنيها من أيّ تأجيل أو مقاطعة للمؤتمر، مهما حاول المماطلون تبرير ذلك بحجة الحفاظ على «مكتسبات الثورة»، الذي لا يختلف كثيراً بالمقابل عن منطق البعض في النظام بحجة الحفاظ على «منجزات النصر العسكري». 

والمشكلة الثانية هي أنّ سعي عناصر الفضاء القديم إلى الاستمرار في الحياة السياسية الجديدة دون أن تكيف نفسها مع الجديد؛ مع العمل السياسي الحي بين الجماهير، وتلمّس مصالحها بشكل موضوعي، وتقديم برامج سياسية واضحة تقترح حلول للقضايا الاقتصادية-الاجتماعية والوطنية والديمقراطية، إنما يعني أن البدائل المتبقية أمامها لاكتساب الوزن هي اللعب على التوازنات الدولية والإقليمية المؤقتة أو التغيرات الداخلية الجزئية لتستمد منها نسغ الحياة، وهذا يعني استمرار التدخل الخارجي بشكل أو بآخر وإجهاض ولادة سيادة وطنية كاملة وخطراً يتهدد الوحدة الوطنية .

في المقابل لا يعاني «ائتلاف قوى التغيير السلمي» المعارض أيّ قلق وجودي من هذا النوع. إنّه ينطلق من رؤية مختلفة للتمثيل السياسي «الوازن» جعلته السبّاق في النضال، منذ تشكيل نواته الأولى «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» وحتى الآن، ترى حلّ الأزمة على أسس ثلاثة متلازمة: المقاومة الصارمة لأيّ تدخل خارجي، ووقف العنف الداخلي بين أبناء الوطن الواحد، واعتبار التكفيريين غزاة أجانب، مع الإصرار في الوقت نفسه على ضرورة التغيير الوطني الديمقراطي الجذري الشامل والسلمي للنظام بالمعنى السياسي والاقتصادي-الاجتماعي والديمقراطي. 

ولمّا كانت هذه الرؤية للحلّ تنطبق على مصلحة أغلبية الشعب السوري، لم يتردد الائتلاف في تحمّل المسؤولية الوطنية والأخلاقية لمخاطبة الجماهير مباشرة بشرح رؤيته، ووضعها في الممارسة العملية. فاشترك بالحراك الشعبي السلمي، ونبَذ العنف ضده ومنه ومن الخارج، ورفض الاستقطاب على أساس الاصطفافات الوهمية غير الوطنية، سواء المبنية على أسس دينية وطائفية وقومية إلخ..، أو على أساس الثنائية الوهمية (معارض- موالي)، ولم يوفر فرصة في النضال من أجل كسره واختراقه وتغيير الفرز نحو جعله على أسس وطنية وسياسية حقيقية، فشاركت قواه في جميع فرص الحوار والمصالحة، والانتخابات البرلمانية، والحكومة، مواجهةً خلال ذلك الاتهامات والهجمات عليها من جانب المتشددين والفاسدين وتجار الأزمة، من داخل النظام والمعارضة وأجهزة الدولة والمجتمع ومن خارج البلاد أيضاً،  وبالنسبة للائتلاف أمام الكارثة الإنسانية السورية، وأمام ضرورة إنهائها، يجب أن تغدو أشياء من قبيل التنصيب على «كرسي» أو الإقالة منه، أو البحث عن «الزعامة» في الوفود الدبلوماسية، أموراً تافهة وثانوية.