ليسنكو وفافيلوف (2) - هل دمَّرت أبحاث ليسنكو الزراعة السوفييتية؟

ليسنكو وفافيلوف (2) - هل دمَّرت أبحاث ليسنكو الزراعة السوفييتية؟

خصّص اثنان من أبرز علماء الأحياء الأمريكيين (ليفونتين وليفنس) فصلاً في كتابهما المشترك (البيولوجيّ الديالكتيكي، 1987) لمناقشة قضيّة ليسنكو، وفيه كَتَبا: «يشيع الافتراض بأنّ تقنيات الزراعة الليسنكويّة وعقائدها البيولوجية تركتْ أثراً خَطِراً على الإنتاج الزراعي... لكن يجب أن نتذكّر بأنّ الفترة بين 1948 و1962 التي هيمنت فيها الليسنكويّة على البيولوجيا الزراعية السوفييتية، قد تطابقت في الحقيقة مع الفترة ذات النمو الأسرع بمحاصيل القمح لكلّ فدّان! وخلالها زادت المساحة الإجمالية المزروعة بالقمح في الاتحاد السوفييتي من 30 مليون هكتار إلى نحو 70 مليوناً، بينما تقلّصت نظيرتها الأمريكية من 60 مليون فدّان إلى 45 مليوناً».

يشرح ليفونتين وليفنس أنّ قسوة المناخ الروسيّ فَرضتْ تحدّياً أساسياً على الزراعة السوفييتية، لأنّ التقلبات وعدم الموثوقية الزمنية أوقعت بانتظام كوارث ناجمة عن الجفاف أو الصقيع الشتوي الشديد. وحدث جفافٌ طبيعيّ قاسٍ في سنتي 1920 و1921 بالتزامن مع الحرب الأهلية، مما تسبب بمجاعة كارثيّة قضت على نحو مليون إنسان. ومجدداً جاءت سنة 1924 قاسية أيضاً، فنقصت إمدادات الحبوب بنسبة 20%.
واعتبر هذان العالِمان أنّ العامل الأساسي الذي قاد كلّ السياسة الزراعيّة السوفييتية هو هذا التقلب وعدم الموثوقية في الحرارة والهطول المطري وإمكانية الكوارث الزراعية التي تخيّم بثقلها على البلاد. وهنا تأتي أهمّية «التربيع» Vernalization بوصفه عملية تبريدٍ وترطيبٍ لبذور الأنواع الشتوية لكي تتم زراعتها في الربيع، بحيث تكمل دورة نموّها مع تجنّب خطر الطقس الشتوي القاسي. وكان مبدأ التربيع معروفاً سابقاً وفي القرن التاسع عشر، ولكن ليسنكو تبنّاه ووسّع استخدامه على تشكيلة واسعة من المحاصيل والحالات. ولم تكن مصادفةً أنّ أُولى التجارب الواسعة للتربيع قد تمّ تنفيذها بعد شتاءين شديدَي القسوة 1927-1928 و1928-1929 واللَّذين بلغت الخسائر فيهما 32 مليون فدّان من القمح الشتويّ بسبب البرد المفرط.

تهمة الاحتيال والعِلم الزائف

يطغى على المنشورات العلمية والسياسية الغربيّة اتهام ليسنكو بأنه «دجّال» و«عالِم زائف»، ويثير الدهشة حقاً العددُ الهائل من الأوراق والكتب والأفلام والندوات الجامعية التي خُصِّصت لتثبيت هذه الصورة. ونكتفي منها بالمثال الآتي: في عام 2014 نشر موقع «مشروع موسوعة الجنين» التابع لجامعة أريزونا الأمريكية مقالاً تعريفياً طويلاً عن فافيلوف، يرد فيه ذكر ليسنكو 27 مرة وبشكل سلبيّ دائماً، وفي أحد المقاطع نجد صياغةً تعمَّدتْ جَعل الكلام عن أهمّ تقنيّة زراعية طوّرها ليسنكو واشتهر بها وهي «التربيع»، يأتي مباشرةً بعد عدة جمل تطعن بمؤهّلاته العلمية ونتائجه. فلنقرأ المقطع كاملاً:
«في عام 1927، تم الاعتراف بـ تروفيم دينيسوفيتش ليسنكو، المنافس العام لفافيلوف، في صحيفة وطنية لمهاراته في تربية النباتات. تابع فافيلوف أعمال ليسنكو، لكنه سرعان ما أدرك أن ليسنكو كان يفتقر إلى التعليم العلمي الرسمي ولم يكن على دراية بالمفاهيم الجينية الحديثة. وبدلاً من الاختبار عن طريق التجربة المضبوطة بشاهد، اتّبع ليسنكو أساليبه الخاصة في تربية النباتات، وفي بعض الحالات تَلاعَبَ بنتائجه. وروَّج ليسنكو لما أطلق عليه العلماء اسم التربيع vernalization أيْ تعريض البذور للبرد والرطوبة من أجل تغيير موعد زراعتها. واقترح ليسنكو التربيع كحلٍّ لمشكلة تكييف المحاصيل مع المناخ الشمالي البارد لروسيا، مجادلاً بأن هذه التقنية من شأنها أن تزيد بشكل كبير من إنتاجية المحاصيل في روسيا».

إنّ مقطع الموسوعة الأمريكية أعلاه يحتوي أكاذيب بالجملة:

فأوّلاً، بالنسبة للتعليم الأكاديمي الذي حصل عليه كلّ من ليسنكو وفافيلوف يمكن للقارئ الرجوع إلى الحلقة الأولى من هذه السلسلة.

وثانياً، مزاعم التلاعُب بالنتائج وعدم صلاحية الطرائق تعني التشكيك بمئات الأبحاث التي نشرها أنصار مذهب ليسنكو على مدى سنوات، وليست المشكلة في التشكيك العلميّ بحد ذاته فهو أمرٌ مشروعٌ بل وضروريٌّ في كثير من الحالات، ولكن المشكلة أنّ السلطات الغربية لم تكتفِ بقلّةِ تشجيع علماءها على إعادة تجارب ليسنكو، بل ووصلت أحياناً لدرجة القمع كما حدث مع بروفسور الكيمياء رالف شبيتزر الذي أقيلَ من جامعة أوريغان الأمريكية خلال الحرب الباردة لمجرّد أنّه دعا إلى ضرورة التحقّق من تجارب ليسنكو!
وفي هذا السياق كانت، وما تزال، أكثر فكرةٍ تتعرّض للهجوم من علماء التيّار السائد في الوراثة الرافضين لليسنكويّة، هي فرضية إمكانية وراثة الصفات المكتسبة، على الرغم من استمرار تراكم الأدلّة الداعمة لها قبل وبعد ليسنكو على مدى عقود وحتى يومنا، ولذلك تستحقّ أنْ نفرد لها حلقة خاصّة لاحقاً. أما حالياً فنكتفي باقتباسٍ من الباحث في الكيمياء الحيوية يونغشينغ ليو Yongsheng Liu من جامعة ألبيرتا الكندية، حيث كتب في ورقةٍ نشرها عام 2007 في مجلة المنظَّمة الأوروبية للبيولوجيا الجزيئيّة EMPO reports:
«ثمّة كذلك سجّلاتٌ عديدة عن تغييرات موروثة مُحرَّضة بالتطعيم، وكان داروين أوّل مَن جمع المعلومات المتاحة عن الأفراد الهجائن بالتطعيم الناتجين عن النسيج الخلوي من نباتَين مختلِفَين (داروين 1868). وقام العديد من مربّي النباتات المشهورين، بمن فيهم [الأمريكيّ] لوثر بيربانك (1849–1926) و[الروسي] إيفان ميتشورين (1855–1935)، بإنتاج نباتات ذات خصائص قابلة للتوريث تمّ اكتسابها من نُسج كلا النباتَين الأصليَّين. أضفْ إلى ذلك نحو 500 ورقة بحثية عن تجارب لهذه الأنماط من التهجين نُشِرَتْ في الاتحاد السوفييتي خلال الخمسينيّات، على الرغم من التجاهل الكبير الذي لاقتْهُ هذه الأدبيّات من علماء الوراثة الغربيّين حيث أهملوها بدعوى استنادها على نتائج مُخادِعة. ولكن خلال العقود الماضية، بيَّنَ علماء مستقلّون، مراراً وتكراراً، بأنّ خصائص متنوِّعة مُحرَّضة بالتطعيم في النباتات قد تمتَّعتْ بالثبات وقابليّة التوريث».

«الضحية» تشهد لـ«القاتل»

ثالثاً، فيما يتعلّق بـتقنية «التربيع» التي حاولت الموسوعة الأمريكية أعلاه الإيحاء بقلّة جدواها في روسيا، لنقارِنْ مع المقطع التالي الذي كتبه فافيلوف نفسه، ونقتبسه من أعمال فافيلوف المختارة والمترجمة للإنكليزية التي نُشِرَت بعد ست سنوات من وفاته، في المجلد 13 من السلسلة الأمريكية «الوقائع النباتية» Chronica Botanica لعام 1949/1950. فتحتَ عنوان «التربيع وأهميته في الانتفاع من موارد النبات العالمية» كتب فافيلوف:
«إنّ طريقة التربيع التي أدخلها تروفيم ليسنكو قد افتتحت إمكانيات عظيمة للانتفاع من التشكيلة العالمية من المحاصيل العُشبيّة. جميع أنواعنا القديمة والجديدة، وكذلك التشكيلة العالمية بأسرها، يجب من الآن فصاعداً اختبارها من وجهة نظر التربيع، لأنّ تجارب السنوات الأخيرة بيّنت أنّ التربيع يمكنه إعطاء نتائج باهرة عن طريق تحوير الأنواع النباتية بالمعنى الحرفي للكلمة، مغيِّراً إياها من نباتات غير مناسبة عادةً لمنطقة معيَّنة إلى أشكال ذات إنتاجية عالية. مثلاً، الشعير الشتوي الذي لا يستطيع النمو في ظروف لينينغراد -نظراً لإخفاق إنبات البذور المغروسة في الربيع ونظراً لقتل الشتاء لبذوره التي تُغرس شتاءً- هذا الشعير عندما يتم تربيعُه، فإنه لا ينبتُ بشكل طبيعي فحسب، بل وأعطى لدى بعض الأنواع محاصيلَ وفيرة أكثر من أفضل مُنتَخَبات الشعير الربيعي الشمالية. وهناك أنواع معيّنة من الكتّان طويل الألياف تمّ تربيعها فنمت لارتفاعات أعلى من النباتات غير المعالجة [غير المعالَجة بالتربيع]. إننا بلا شكّ نقف على عتبة مراجعة موارد المحاصيل العالمية من ناحية استجابتها للتربيع، بما فيها تشكيلتنا بأكملها من الأنواع المُصطفاة والمحليّة. إنّ طريقة التربيع عاملٌ قويّ في إكثار العديد من النباتات العشبية، بحيث تتيح لنا أنْ ننمّي في مناخاتنا الشمالية العديدَ من الأشكال الجنوبية شبه الاستوائية والتي كانت ستفشل في التطوّر الطبيعي لولا هذه المعالجة. إنّ تجارب التربيع في ريف خيبين ما وراء الدائرة القطبية الشمالية وفي لينينغراد قد برهنت الإمكانيات العظيمة في الانتفاع من التشكيلة العالمية لمختلف النباتات المزروعة. وأصبحنا قادرين للمرة الأولى على إجراء التجارب على المجموعة الكاملة من أنواع الشعير في العالم، بما فيها الأنواع الشتوية والربيعية المتأخرة، والتي لولا ذلك ما كان لها أن تنبت في الظروف الطبيعة لمنطقة لينينغراد. وعبر اصطفاء الآباء المناسبين للتهجين، فإنّ نظرية ليسنكو عن (المراحل) تفتح إمكانيات غير عاديّة للانتفاع من نباتات العالَم».

لقراءة الجزء الأول من المقال ( ليسنكو وفافيلوف وأشرسُ حَملة لتشويه تاريخ السوفييت بذريعة العِلم (1) )

لقراءة الجزء الثالث من المقال:(  ليسنكو وفافيلوف (3) - التجميع الزراعي والمعركة مع الكولاك )

 

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1170
آخر تعديل على الإثنين, 29 نيسان/أبريل 2024 12:20