الطبّ الاجتماعي... هل الكائنات الدقيقة كافية لتمرض؟
أوسكار فيو إستوريس أوسكار فيو إستوريس

الطبّ الاجتماعي... هل الكائنات الدقيقة كافية لتمرض؟

يصف كتاب «الطبّ الاجتماعي والتحوّل القادم» مساراً للتغيير التقدّمي ما بعد الرأسمالية. فيركّز مؤلّفوه على أهمية البنية الاجتماعية وظروف المعيشة والعمل في نشوء أمراض السكّان بما يتجاوز العوامل البيولوجية البحتة. ويستنتجون أنّ الصحة الجيّدة في المجتمع تحتاج تغييراً ثوريّاً في توزيع الثروة والسلطة والحدّ من عدم المساواة.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

فيما يلي تلخيصٌ لمراجعة الكِتاب المذكور، نشرَها أوسكار فيو إستوريس في دورية «مونثلي ريفيور»، وإستوريس أستاذ في جامعة كارابوبو ومعهد بوليفار ماركس للدراسات المتقدمة في فنزويلا. والكتاب من تأليف هوارد ويتزكين، وألينا بيريز، وماثيو أندرسون، وصَدَر لأول مرة باللغة الإنكليزية عن دار روتليدج، نيويورك، في ذروة جائحة كوفيد عام 2021، ثم باللغة الإسبانية عام 2023.
يشير المؤلّفون إلى أنّ الطبّ الاجتماعي في أمريكا اللاتينية، وخاصةً في البرازيل، يتّخذ اسم (الصحّة الجماعية) collective health، بدلاً من (الصحة العامة) public health التقليدية، حيث أصبحت هذه الأخيرة في العديد من البلدان خاضعةً للسّوق ورأس المال، كما أنّ مَنهجَها يركّز على عوامل الخطر المَرضيّة الفردية، وهو ما انتقده المؤلّفون لأنّه برأيهم نهجٌ غير كافٍ لحماية الحياة الجَماعية.

النضال ضدّ القمع والمرض

خاضت حركة الإصلاح الصحي البرازيليّة، في السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي، معركةً ضدّ الدكتاتورية العسكرية، محاولةً بناء نظام صحي فريد وشامل. ولا شكّ بأنّ النجاحات التي تحقّقت في كلا النضالَين، جاءت نتيجةً للتعبئة الشعبية المكثفة من أجل الديمقراطية والحقّ في الصحة. واليوم تواصل (الرابطة البرازيلية للصحة الجماعية) و(المركز البرازيلي للدراسات الصحية) هذا الإرث النضاليّ من أجل صحة جيّدة للجميع.
كان فريدريك إنجلس ورودولف فيرشو وسلفادور ألّيندي جميعهم من رواد حركة الطب الاجتماعي. ويؤكّد الكتاب على الدّور المهمّ الذي لعبه تيار الالتزام السياسي التقدّمي في هذا الجانب، فيستعرض مثلاً عملاً مهمّاً لخوان سيزار الذي يعتبر أبو الطب الاجتماعي في أمريكا اللاتينية، وهو طبيبٌ وعالم اجتماع أرجنتينيّ ذو تأثيرٍ ماركسيّ قويّ.
لقد قدم إنجلس تحليلاً معمَّقاً لتجارب العمّال في مصانع النسيج وظروفهم المعيشية في كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا»، فكان أحد روّاد الطب الاجتماعي والصحة المهنية. وكان الزعيم الاشتراكي سيلفادور ألّيندي، الذي انتُخب رئيساً لتشيلي ثم اغتيل في انقلاب دبّرته واشنطن، رائداً في الطب الاجتماعي. وكان ألّيندي بالكاد يبلغ 30 عاماً عندما شغل منصب وزير الصحة في تشيلي، وألّف كتاب «الواقع الطبي الاجتماعي التشيليّ» الذي أصبح نصاً تأسيسياً ركّز على الحاجة إلى تحليل الأمراض من خلال محدّداتها الاجتماعية، وعلى الطبيعة التغييريّة للطب الاجتماعي في الممارسة العمليّة.

خلاف فيرشو وكوخ بشأن السلّ

يُعتَبَر عالِمُ الأمراض رودولف فيرشو أبا الطبّ الاجتماعي في العصور الحديثة. ويسلّط مؤلّفو الكتاب الضوء على أهمّية صراع فيرشو مع الشاب روبرت كوخ فيما يتعلق بأسباب مرض السلّ. وعندما كان فيرشو رئيساً لأكاديمية برلين الطبية، أشار كوخ إلى العلاقة بين داء السلّ (التدرُّن) والجرثومة التي ستحمل اسمه لاحقاً (عُصَيّة كوخ). مع ذلك، أكد فيرشو أنّ الكائنات الحية الدقيقة ليست كافيةً للتسبّب في المرض الإنتانيّ، حيث لا بدّ من الاعتراف بضرورة وجود ظروف اجتماعية محدَّدة تدخل في العمليّة السببية.
كان فيرشو يطبّق تمييزاً في فلسفة العلم بين السبب اللّازم والسبب الكافي. وفي هذه الحالة، لم يكن الميكروب وحدَه كافياً للتسبب بمرض السلّ دون مساهمة الظروف الاجتماعية مثل الفقر، وعدم كفاية السكن، وسوء تهوية المكان، وسوء التغذية، وسوء الصرف الصحي، وغيرها...

الطب في الولايات المتحدة

بعد هذا العرض الغنيّ، يناقش المؤلِّفون (ويتسكين وبيريز وأندرسون) وضع الطب في الولايات المتحدة وتحدّياته. ويصفون تاريخ ولادة الطب الاجتماعي جنباً إلى جنب مع نضالات العمّال خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وخاصةً فيما يتعلق بمدينة «لويل» في ولاية ماساتشوستس، التي كانت مقرّاً لصناعة النسيج، وأصبحت اليوم موطناً لمركزٍ مشهور مُتخصص في صحّة العمال.
داخل الولايات المتحدة، ظلّ السوق يحكم الرعاية الصحية لفترة طويلة. وكانت حملة اضطهاد الشيوعيّين، التي شنّتها المكارثيّة، ضروريةً لفتح مجال الصحة أمام رأس المال الكبير. وقد تَبيَّنَ أنّ وثائق التأمين الصحي وما يسمى الآن «التغطية الصحيّة الشاملة» بالطريقة الرأسمالية التي تُمارَس بها، لم تكن سوى استراتيجيات سوقيّة لتسخير المجال الصحّي لمصلحة الأرباح الفاحشة التي تتدفّق إلى المجمّع الطبي والصناعي والمالي والتأميني.

«الخيريّة الرأسمالية»

يجدر بالذكر أيضاً، أنّ «مؤسسات الإحسان» التي تنتمي إلى ما يُعرَف بالرأسمالية الخيريّة، لعبَت دوراً أساسياً في بناء أنظمة الرعاية الصحية في جميع أنحاء الجنوب العالمي، كان يتمثّل غالباً بقضائها على العقبات التي تعترض طريق أرباح رأس المال الكبير. على سبيل المثال، روَّجت مؤسَّسة عائلة روكفلر الأمريكية لإنشاء وزارة الصحة في فنزويلا في ثلاثينيّات القرن العشرين من أجل مكافحة الملاريا، حيث كان المرض يعيق استغلال النفط - وهو أساس إمبراطورية جون د. روكفلر العالَمية. فلم يكن دافعُها الإحسان ولا العدالة، بل الاستغلال والربح فقط.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1164