غرامشي عن وحدة النظرية والممارسة ونقد السلبيّة السياسيّة
أنطونيو غرامشي أنطونيو غرامشي

غرامشي عن وحدة النظرية والممارسة ونقد السلبيّة السياسيّة

إنّ «الإنسان في جمهور» عندما يكون فعّالاً، يمتلك نشاطاً عمليّاً لكنّه يفتقر للوعي النظريّ الواضح بشأن نشاطه العمليّ، والذي مع ذلك ينطوي على فهمٍ للعالم بمقدار ما يُحدِثُ التغيير في هذا الأخير. وفي الحقيقة يمكن لوعيه النظري أن يكون في تضادّ تاريخي مع نشاطه. يمكننا تقريباً القول إنّه يمتلك وعيَيَن نظريَّين (أو وعياً واحداً متناقضاً): أحدهما متضمَّنٌ في نشاطه ويوحّده واقعيّاً مع جميع زملائه العامِلين في التغيير العملي للعالَم الواقعي، والآخر صريحٌ على السطح أو لفظيّ، وهذا الأخير هو الذي ورثه عن الماضي وتشرَّبَهُ بشكلٍ غير نقديّ – أنطونيو غرامشي (من دفاتر السجن).

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

ولكنّ هذا المفهوم اللّفظي ليس بلا عواقب، فهو يَجْبُل سَويّةً مجموعةً اجتماعيّة معيَّنة، مؤثِّراً على السلوك المعنوي وعلى اتّجاه الإرادة، بكفاءة متفاوتة ولكن بقوّة كافية غالباً لإنتاج وضعٍ لا تسمح فيه حالة الوعي المتناقضة بأيّ فعل، ولا بأيّ قرارٍ أو خيار، مما ينتج حالةَ سلبيّةٍ معنويّة وسياسيّة. ولذلك يَحدث فهمُ الذات النقديّ من خلال صراع «الهَيمنات» السياسية والاتجاهات المتعارضة، في المجال الأخلاقي بدايةً ومن ثمّ في السياسة بحصر المعنى، من أجل التوصّل إلى إفراز مستوى أعلى من تصوّر الشخص عن الواقع. إنّ وعي الانتماء إلى قوّةٍ مهَيمِنَةٍ معيَّنة (الوعي السياسيّ بتعبيرٍ آخر) هو المرحلة الأولى نحو وعيٍ ذاتيٍّ تقدّميٍّ أبعد، بحيث تتوحّد فيه أخيراً النظرية والممارسة.
إذن، وحدة النظرية والممارسة ليست مسألةً مجرّدة لواقع ميكانيكي. بل هي جزءٌ من العمليّة التاريخية، يُعثَرُ على طورها الأوّلي والبدائي في مفهوم أنْ تكون «مختلِفاً» و«جزءاً»، في الإحساس الغريزيّ بالاستقلال، والتي تتقدّم وصولاً إلى مستوى الامتلاك الحقيقي لتصوّرٍ واحدٍ ومتماسكٍ عن العالَم. ولهذا يجب التشديد على أنّ التطوّر السياسي لمفهوم الهيمنة يمثّلُ تقدّماً عظيماً فلسفياً وسياسياً أيضاً. لأنّه يفترض بالضرورة وحدةً فكريّة وخُلُقاً يتماشى مع تصوّرٍ للواقع قد قَطَع شوطاً أبعدَ من الفهم الاعتيادي (المشترك أو الشائع) common sense وأصبَحَ فهماً نقديّاً، ولو في حدودٍ ضيّقة.

التنظيم، المثقَّفون، والجماهير

ولكن، في أحدث تطوّرات فلسفة الممارسة لا يزال استكشاف وتشذيب مفهوم وحدة النظرية والممارسة في مرحلته الباكرة فحسب. فما تزال ثمّة بقايا للميكانيكية، حيث يتكلّم الناس عن النظريّة وكأنها «متمِّمٌ» أو «ملحَقٌ» بالممارسة، أو كأنها الوصيفة الخادمة للممارسة. ولسوف يبدو صواباً النظر في هذه القضية على نحوٍ تاريخيّ، بوصفها جانباً من قضيّة المثقَّفين السياسية. فالوعي الذاتيّ النقديّ يعني، تاريخياً وسياسياً، خَلقَ نخبة من المثقّفين.
إنّ كتلةً بشريّة ما، لا «تميّز» نفسَها، لا تصبح مستقلّة بذاتها، دون تنظيم نفسها، بأوسع معاني الكلمة؛ ولا تنظيمَ دون مثقَّفين، بمعنى منظِّمين وقادة. وبتعبير آخر، دون أن يتمّ التمايز الملموس للجانب النظريّ من صلة النظرية-الممارسة، عبر وجود مجموعة من الأشخاص «المتخصّصين» بالتطوير التفصيلي للأفكار مَفاهيميّاً وفلسفيّاً. ولكنّ عمليّة خَلق المثقَّفين هي عمليّة طويلة وصعبة ومليئة بالتناقضات وبخطواتٍ من التقدّم والتراجع، والتشتُّت وإعادة التجميع، والتي تمرّ غالباً بامتحانٍ مَريرٍ لوَلاء الجماهير. (ويجب ألّا ينسى المرء أنّ الولاء والانضباط في هذه المرحلة هما الطريقتان اللتان بفضلهما تُقدِّمُ الجماهيرُ مساهمتها وتعاونها في تطوير الحركة الثقافية ككلّ).
إنّ عملية التطوّر مرتبطةٌ بديالكتيكٍ ما بين المثقّفين والجماهير، وتتطوّر الشريحة المثقَّفة كميّاً وكيفياً، ولكن كلّ قفزة إلى لأمام باتجاه اتساعٍ وتعقيدٍ جديدَين لشريحة المثقَّفين إنّما ترتبط بحركة نظيرة لها من جانب الجمهور «البسيط»، الذي يرتقي بنفسه إلى مستوى أعلى من الثقافة، ويوسِّع في الوقت نفسه دائرةَ نفوذه باتجاه شريحة المثقّفين المتخصّصين، مما ينتج أفراداً بارزين ومجموعاتٍ على قدرٍ من الأهميّة، أقلّ أو أكثر. ولكن، خلال العملية تحدثُ باستمرار لحظاتٌ يتطوّر فيها نقصٌ في التواصل وهوّة بين الجمهور والمثقّفين (أو بين بعضهم أو مجموعة منهم على الأقل). ومن هنا يتولّد الانطباع بأنّ النظرية «ملحق» أو «مكمّل» وأنها شيءٌ ثانوي.
إنّ الإصرار على العنصر العَمليّ من صلة النظريّة-الممارسة، بعد القيام ليس فقط بتمييز بل وبفصل وتفريق العنصرين عن بعضهما (وهي عملية ميكانيكية وتقليدية بحد ذاتها)، إنما يعني المرور في طورٍ تاريخيٍّ بدائيّ نسبياً، طور لا يزال فئويّاً-اقتصاديّاً، والذي يتم فيه التحويل الكمّي لإطار العمل «البنيويّ» العام، في وقت يكون فيه البنيان الفوقي-الكَيْف الملائم لا يزال في عمليّة الظهور، ولم يتشكّل عضويّاً بعد. وينبغي التشديد على الأهميّة والمغزى، اللذين لدى الأحزاب السياسية في العالَم المعاصر، لتطوير التصوّرات عن العالَم بالتفصيل ونشرها. لأنّ ما يفعلونه بالجوهر هو تكوين الأخلاقيّات والسياسات التي تتوافق مع هذه التصورات، والتصرّف كما لو أنها «مختَبَرُها» التاريخي. تقوم الأحزاب بتجنيد أفرادٍ من الجماهير الكادحة، ويتم الانتقاء على أساس معايير عمليّة ونظرية في الوقت عينه. وتصبح العلاقة بين النظرية والممارسة أكثر وثوقاً كلّما كان التصوّر أكثر حيويّة وجذريّة وجِدّة ومُعارَضَةً لطرق التفكير القديمة. ولهذا السبب يمكن القول إنّ الأحزاب هي مَن يطوّر مجموعات الإنتلجنتسيا (المثقّفين) الجديدة المندمجة والشمولية. وهي البوتقات التي تصهر النظريّة والممارسة وتوحّدهما، بوصف ذلك عمليةً تاريخية حقيقية. ومن ذلك يتّضح بأنّ الأحزاب ينبغي أن تتشكّل من عضويّات فرديّة وليس على نمط «حزب العمّال البريطاني»، لأنّه إذا كانت القضية هي التزوّد بقيادة عضوية للجمهور الناشط اقتصادياً بالكامل، فإنّ هذه القيادة ينبغي ألّا تتّبع المخطَّطات القديمة، بل عليها أن تقوم بالابتكار. ولكن الابتكار لا يمكن أن يأتي من الجمهور، في البداية على الأقل، إلّا بوساطة نخبةٍ يكون بالنسبة لها التصوّرُ المتضمَّن في النشاط البشري قد أصبح سلفاً وإلى درجة معيّنة إدراكاً متماسكاً ومنهجيّاً وحاضراً دوماً، وإرادةً دقيقة وحاسمة.

الهزائم السياسية والحَتميّة الميكانيكية

عندما لا تملك زمام المبادرة في النضال، ويصبح النضال بحد ذاته متطابقاً في نهاية المطاف مع سلسلة من الهزائم، فإنّ الحَتميّة الميكانيكية [تضخيم العامل الموضوعي على حساب الذاتي - المُعرِّب] تصبح قوّة هائلة للمقاومة المعنويّة، للتماسك والصبر والمواظبة العنيدة؛ [تقول في نفسك] «لقد هُزِمتُ في اللحظة الراهنة، ولكنّ موجة التاريخ تعمل لصالحي على المدى الطويل». ويرتدي الواقع لبوسَ فعلٍ إيمانيّ في تبريريّةٍ تاريخيّة معيَّنة، وفي شكلٍ بدائي وتجريبيّ من القَطعيّة النهائية finalism الحماسيّة، التي تَظهر في دور بديلٍ عن القضاء والقَدَر في المسلَّمات الدينيّة. ولكن ينبغي التشديد مع ذلك على أنّ نشاطاً قويّاً للإرادة يوجد حتّى في هذه الحالة، ويتدخّل مباشرةً في «قوّة الظروف»، ولكن بشكلٍ ضمنيّ فقط، وبشكلٍ مستتر وخجول. لذلك فإنّ الوعي هنا يكون تناقضيّاً وتعوزه الوحدة الانتقاديّة، وما إلى ذلك. ولكن عندما يصبح «المستَضعَف» مُوجِّهاً ومسؤولاً عن النشاط الاقتصادي للجماهير، تصبح الميكانيكية عند نقطة معيّنة خطراً مُحدِقاً، ولا بدّ أن تَحدث مراجعةٌ لأساليب التفكير، لأنّ تغييراً قد حصل في أسلوب الوجود الاجتماعي. إنّ حدود وسلطان «قوّة الظروف» تصبح مقيّدة. ولكن لماذا؟ لأنه، بالأساس، إذا كان العُنصُر المُستَضعَف في الأمس شيئاً، فإنّه لا يعود اليوم شيئاً بل شخصاً تاريخيّاً، نصيراً لقضية؛ وإذا كان في الأمس غير مسؤول بسبب «مقاومة» إرادة خارجة عنه، فإنه اليوم يشعر بنفسه مسؤولاً لأنه لم يعد يقاوِم بل صارَ عاملَ تأثيرٍ ضرورياً نشيطاً ويأخذ زمام المبادرة.
... من الضروري في كل الأوقات البَرهنة على عُقم الحَتميّة الميكانيكية، فعلى الرغم من الوضوح الصريح بأنها فلسفة ساذجة للجماهير وما إلى ذلك، ولكنّها فقط بوصفها كذلك تستطيع أن تكون عنصر قوّة داخليّ المنشأ، رغم أنه عندما يتمّ تبنّيها كفلسفة متماسكة على محمل الجدّية الفكرية من جانب المثقّفين، تصير سبباً للسلبيّة، وللاكتفاء الذاتيّ الأحمق. ويحدث هذا الأمر حتى عندما لا يتوقّعون بأنّ المُستَضعَفين سيمسكون بزمام التوجيه والمسؤولية. ولكن هناك جزء من الجمهور المُستَضعَف يكون منخرطاً دائماً بالتوجيه والمسؤولية، وإنّ فلسفة الجزء تسبق دائماً فلسفة الكلّ، ليس بوصفها مقدّمتها النظرية فحسب بل وضرورةً للحياة الواقعية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1138