«الثورة» و«الثورة المضادّة» في العلم أيضاً (1)
فلاديمير أتسوكوفسكي فلاديمير أتسوكوفسكي

«الثورة» و«الثورة المضادّة» في العلم أيضاً (1)

في كتابه «فلسفة ومنهجية التعقيد التقنيّ» الصادر عن الأكاديمية الروسية للعلوم الطبيعية (موسكو 2005)، يتطرّق العالِم السوفييتي-الروسي الرّاحل، فلاديمير أتسوكوفسكي (1930–2021)، إلى العلاقة بين ثلاثة مسارات في التطوّر، العلوم الطبيعية، والتكنولوجيا، والثورات الاجتماعية. ويصيغ تعريفاً لـ«الثورة» و«الثورة المضادّة» في العلم ولمعيار «التقدّمية». هذا ما سيعرضه الجزء الأول من هذه المادة بتصرّف.

تعريب: د. أسامة دليقان

في الفقرة السابعة من الفصل الأول من كتابه، وتحت عنوان «التناسب بين العلوم الطبيعية والثورات التكنولوجية والاجتماعية» يبدأ أتسوكوفسكي بالتذكير بأنّ القوى المنتجة هي نظام من العناصر الذاتية (الإنسان) والمادية التي تنفِّذ «تبادل المادة» بين الإنسان والطبيعة في عملية الإنتاج الاجتماعي. ويتابع بأنّ هناك ثلاثة عناصر أساسية تحدّد مستوى الإنتاج، ماهيّة المنتوجات التي تجري عملية الإنتاج من أجلها، والتكنولوجيا، والعلوم الطبيعية.

وبالتالي، فإنّ الحاجة إلى استخدام خيرات استهلاكية معينة تحدّد اختيار وسائل الإنتاج والتكنولوجيّات المناسبة، التي لا يمكن إنشاؤها وإدراجها في الإنتاج إلا على أساس المعرفة المكتسَبة، أي على أساس العلوم الطبيعية. فالسلع نفسها ليست دائماً ضرورية لوجود المجتمع، حيث يمكن فرضها على الاستهلاك الجماعي، ويمكن أنْ تكون أشياء للرّفاهية والهيبة، وقد تكون ضارّة بصحّة الناس. يمكن أن يصبح الاستهلاك نفسُه هدفَ الوجود، كما يفرضه بالقوة على المجتمع نظامُ الإنتاج الرأسمالي المتقدِّم بأكمله، فالإنتاج الرأسمالي، الذي يركِّز على تحقيق أقصى ربح، يعمل غالباً ليس لصالح الإنسان والطبيعة. وهكذا، يتضح أنّ الإنتاج نفسه مرتبط بالبنية الكاملة للمجتمع، بما في ذلك مقولتا «القاعدة» و«البنيان الفوقي».

يتم تحديد تكوين ووظائف وسائل الإنتاج من خلال نطاق المنتوجات الاستهلاكية، ولكنّ إمكانية إنشاء إنتاجٍ معيَّن تحدّدها إمكانية إنشاء تقنيات مناسبة، والتي تعتمد بدورها على مدى تقدّم العلم في معرفة الطبيعة، أي العلوم الطبيعية. كما تتأثر حالة الإنتاج الاجتماعي بشكل مباشر بعلاقات الإنتاج بين جميع العاملين في الإنتاج الاجتماعي، بما في ذلك الاستهلاك.

علاقات الإنتاج

علاقات الإنتاج هي مجموع العلاقات الاقتصادية المادية بين الناس في عملية الإنتاج الاجتماعي وحركة المنتوج الاجتماعي من الإنتاج إلى الاستهلاك. وكما كتب ماركس في «العمل المأجور ورأس المال»: «في الإنتاج، يدخل الناس في علاقات ليس فقط مع الطبيعة. لا يمكنهم أن ينتجوا دون أن يتّحدوا بطريقة معيَّنة من أجل نشاط مشترك ولتبادل نشاطهم المشترك. من أجل الإنتاج، يدخل الناس في روابط وعلاقات معينة، وفقط في إطار هذه الروابط والعلاقات الاجتماعية توجد علاقتهم بالطبيعة، يحدث الإنتاج».

في عملية العمل، تتشكّل علاقاتٌ تحدِّدُها الاحتياجات التكنولوجيّة وتنظيم الإنتاج، مثلاً: العلاقات بين المنظِّمين والمنفِّذين، بين العمّال من مختلف التخصّصات، المرتبطة بالتقسيم التكنولوجي للعمل داخل فريق الإنتاج أو عبر المجتمع. هذه هي علاقات الإنتاج-التقنيّة، لكن بالإضافة إليها تتشكّل في الإنتاج العلاقاتُ الاقتصادية أيضاً بين الناس، حيث يعبّرون عن علاقاتهم بجميع عناصر الإنتاج من خلال مقولة الملكيّة.

الـمُلكيّة

الملكية هي علاقات الناس الاجتماعية المتطورة تاريخياً بما يتعلّق بأشياء أو إجراءات معيَّنة. ونظراً لكونها تُنظَّم قانونياً من قبل الدولة، فإنّ المالكين يكتسبون حقّ الملكية القانوني - مجموعة من القواعد القانونية التي تحدّد حالة الاستحواذ (التبعيّة) - لوسائل الإنتاج ونتائج العمل للأفراد أو الجماعات، وبالتالي سلطة امتلاك هذه الأشياء واستعمالها والتصرّف بها.

من وجهة نظر استملاك نتائج الإنتاج الاجتماعي، يتم توزيع نتائج الإنتاج بين المجموعات (مالكي عناصر الإنتاج، ومنظّمي الإنتاج ومديري الإنتاج، ومنفّذيه...إلخ) بشكل غير متساوٍ. غالباً ما يكون المالك الفعلي هو المالك الرسمي (القانوني)، ويستحوذ على معظم ناتج الإنتاج الاجتماعي. مع تطور القوى الإنتاجية، وتطوّر الإنتاج ونمو الإنتاجية، تصبح حصّة المالكين أكبر فأكبر من الناحية النسبية، بينما تصبح الحصّة النسبية للمنفِّذين المباشَرين أقلّ فأقلّ. وهذا يسبِّب توتّراً اجتماعياً، ويؤدّي إلى فقدان الاهتمام بنتائج الإنتاج الاجتماعي، وتبدأ الإنتاجيّة بالانخفاض، وفي النهاية تحدث أزمة. هذا هو أساس كلِّ الصراعات الاجتماعية.

الرجعيّة الاجتماعية والتكنولوجيا التقدّمية

تبدأ علاقات الإنتاج بإبطاء قوى الإنتاج، ويتمّ التوقف عن استخدام التكنولوجيا التقدّمية التي يمكنها إطعامُ جميع النّاس وتجهيزهم، بينما يتمّ استخدام الأساليب السياسية القويّة بشكلٍ متزايد للاحتفاظ بالممتلكات. تتزايد التناقضات في المجتمع، وينشأ التوتّر الاجتماعي، ويتفاقم التناقض، وينتهي بانفجار - ثورة اجتماعية - تؤدّي إلى تشكيلةٍ اقتصادية-اجتماعية جديدة تكون فيها أشكال ملكية عناصر الإنتاج الاجتماعي مختلفةً بالفعل وأكثر اجتماعيّة.

يتم تلطيف التناقضات لبعض الوقت، وتُزيلُ التشكيلةُ الاقتصادية-الاجتماعية الجديدة التناقضَ الرئيسيّ للتشكيلة السابقة، وتتحسَّن الحياة نسبياً، وتحصل القوى المنتجة على حيّزٍ أكبر للتّنمية. لكنّ كلَّ هذا يستمر فقط إلى أنْ يتفاقمَ تناقضُ التشكيلة الجديدة، فتبدأ الدورة من جديد.

رغم غياب الترابط ظاهرياً بين تطوّرات العلوم الطبيعية والتكنولوجيا والكوارث الاجتماعية، إلا أنّ بينها علاقة مهمّةٌ في الواقع. حيث يسمح تراكم المعرفة عن الطبيعة بخلق تقنيّات جديدة، تسمح بدورها بخلق وسائل إنتاج جديدة ذات إنتاجيّة متزايدة. تضمن وسائل الإنتاج خلق المنتوجات الاستهلاكية، وبالتالي ستساهم في نموّ رفاهية السكان. ومع ذلك، فإنّ الملكية الاجتماعية غير الكاملة لعناصر الإنتاج تؤدّي إلى التوزيع غير المتكافئ للثروة المتراكمة، نسبة كبيرة ممّا تمّ خلقه بالعمل المشترك للمنظِّمين والمنفِّذين يتمّ الاستئثار بها من قبل المالكين، ممّا يجعل تناقص الاهتمام بتنمية الإنتاج وتطويره لا يصيبُ المنفِّذين فقط بل وكذلك المنظِّمين.

الثورة الاجتماعية

ينشأ التوتر الاجتماعي، الذي يتم حلّه من خلال ثورةٍ اجتماعية، أيْ من خلال إعادة توزيع ملكيّة وسائل الإنتاج. وهكذا يساهم تراكم المعرفة عن الطبيعة، من خلال تطوير الإنتاج، في نموّ التناقضات في المجتمع ويؤدّي بالمجتمع إلى أزمةٍ اجتماعية، يتمّ حلُّها من خلال الثورة الاجتماعية القادمة؛ الانتقال إلى التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية التالية.

إنّ الثورة الاجتماعية، بهذا المعنى، هي انتقالٌ سريع نسبياً من شكل ملكية عناصر الإنتاج الذي يتوافق مع التشكيلة الاقتصادية-الاجتماعية السابقة، إلى شكل ملكية عناصر الإنتاج المتوافق مع تشكيلة اقتصادية اجتماعية لاحقة أكثر تقدّماً. معيار «التّقدميّة» هنا هو نموّ درجة إضفاء الطابع الاجتماعي على ملكية عناصر الإنتاج. أما التحوّل العكسي فهو «ثورة مضادّة».

الثورة والثورة المضادّة في العلم

بالطريقة نفسها، يمكن صياغة فكرة «الثّورة العلمية»؛ وهي انتقالٌ سريع نسبياً إلى أفكار جديدة حول بنية الطبيعة، مما يجعلها أقربَ إلى الفهم العميق للبنى والعمليات الطبيعية. أمّا الانتقال إلى تجريدات تبتعدُ أكثر عن فهم العمليات الطبيعية، فهو «ثورة علميّة مضادّة». وسيادة هذا الشكل أو ذاك من أشكال الانتقال، هو أمرٌ يعتمد على مَن الذين في يدهم السلطة الفعلية في العلوم، وأيُّ المدارس العلمية هي التي تهيمن.

في التكنولوجيّات، يمكن أن تتمثّل معايير التقدُّم في زيادة الإنتاجيّة، وخفض التكاليف لكلّ وحدةٍ من المواد الخام والطاقة والعمالة البشرية، وتقليل الأضرار التي تَلحق بالطبيعة والمجتمع.

يتطلّب تطوير الإنتاج مزيداً من المواد الخام والطاقة، والتي يسبّب نقصُها مشكلات اقتصاديّة، ويخلّف نفاياتٍ متزايدة، مما يؤدي إلى مشكلات بيئية، بالكاد يمكن ملاحظتها في البداية، ولكنها تتزايد وصولاً إلى أبعاد كارثية.

الغالبية العظمى من سكّان العالَم حوالي 80% تعيش بمستوى منخفض نتيجةً للتوزيع الظّالم للسلع الاستهلاكية، والذي يعود بدوره إلى واقع بقاء الإنتاج رأسماليّاً، وإلى كون وسائل التوزيع، وهي العلاقاتُ البضاعيّة-النقديّة، تولّد عدم التكافؤ. وهكذا، فإنّ كلّ المشكلات العالمية المعروفة اليوم – في المواد الخام والطاقة والبيئة، والمشكلات الديموغرافيّة والاجتماعية – ناتجةٌ عن توسُّعِ نمط الإنتاج الرأسمالي.

نبذة عن المؤلّف: راجع مقال «أثيروديناميك أتسوكوفسكي وإعادة الفيزياء إلى جادّة المادّية» في العدد 970 من «قاسيون»، 15 حزيران 2020.

(الجزء الثاني)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1132
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 11:45