«أثير» أينشتاين وخطأ الفصل بين المادّة والحركة (2)

«أثير» أينشتاين وخطأ الفصل بين المادّة والحركة (2)

ذكَر أينشتاين في محاضرته التي ألقاها في جامعة لايدن الهولندية عام 1920 بأنه: «يمكن افتراضُ وجودِ أشياء فيزيائيّة ممتدَّة بحيث لا يمكن أن تنطبقَ عليها فكرة الحركة». ولكن هل يوجد «شيء» في الواقع، أثيراً كان أو غيره، ساكنٌ بالمطلق! وكيف لعديمِ الحركةِ الأينشتاينيّ المفتَرَض أنْ يؤثِّر أو يتأثَّر في متحرّكاتٍ مادّية؟

تصريح أينشتاين بفصل الحركة عن المادّة

في محاضرته يعلن أينشتاين: «بالتعميم يجب أن نقول ما يلي: يمكن افتراضُ وجودِ أشياء فيزيائيّة ممتدَّة بحيث لا يمكن أن تنطبقَ عليها فكرة الحركة، وبحيث لا يمكن التفكير بأنها مكوَّنةٌ من دقائق تسمح بتعقُّب مساراتها منفصلةً، عبر الزمن، وبمصطلح مينكوفسكي يتمّ التعبير عن ذلك كما يلي: ليس كلُّ تشكيلٍ ممتدٍّ في العالَم رباعيِّ الأبعاد يمكنُ اعتبارُه مكوَّناً من خيوط العالَم. إنّ النظريّة النسبية الخاصّة تحظر علينا افتراضَ أنْ يكونَ الأثيرُ مكوَّناً من دقائق قابلة للرَّصد عبر الزمن. ولكنّ فرضيّة الأثير بحدّ ذاتها لا تتعارضُ مع النظرية النسبية الخاصَّة، فقط يجب علينا أنْ نتحفَّظَ ضدَّ أنْ نعزو للأثير حالةَ حركة».

كلام أينشتاين يفتح أمامنا تأويلَه بطريقتَين:

  1. إمّا أنّه قرّر منح مقولة «الفيزيائيّ» معنىً مختلفاً جذريّاً عمّا تعارف عليه المادّيون، علماء وفلاسفة (الذين أطلقوا وصف «الفيزيائيّة» على كيفيّة محدّدة من كيفيّات المادّة المتحرّكة أو الحركة المادّية)، فقرّر أينشتاين على ما يبدو إطلاق تسمية «أشياء فيزيائيّة» على كياناتٍ رياضيّة؛ على أشكالٍ هندسيّة «ممتدّة» في فضاءٍ هندسيّ رباعيّ الأبعاد، وخاصةً على «الزمكان» الذي وَرِثَه وتبنّاه عن أستاذه في الرياضيات هيرمان مينكوفسكي (1864-1909)، وبهذا يرتكب أينشتاين الخلط بين الواقع المادّي الفيزيائي وبين أحد المنتوجات الخاصة للفكر البشري (التجريدات الرياضيّة) ويقوم بـ«تشييء» هذه الصّور العقليّة، أو ربّما «تشييء» إحدى خواص المادّة أو أساليب وجودها (المكان والزمان) بعد تجريدها عنها واعتبارها ممكنة الوجود كـ«أشياء» بذاتها، كـ«موادّ» مستقلة.
  2. الاحتمال الآخر، أنّ أينشتاين يتصوّر «أشياء فيزيائية ممتدّة» بمعنى موادّ طبيعية موجودة موضوعياً باستقلال عن وعينا، ولكن يحظر عليها، تعسّفياً، أنْ تأتيَ بأيّةِ حركة، فيبقيها ساكنةً بالمطلق، فينتهكُ بذلك أحدَ أهمّ المبادئ العلمية التي توصّل إليها الفكر البشري العِلمي في ذروة تطوّره حتى الآن، متمثّلاً بتعميمات الفلسفة المادّية الديالكتيكيّة، ألا وهو مبدأ استحالة الفصل بين المادّة والحركة، وأنّه لا وجود سوى للمادّة المتحرّكة (أو الحركة المادّية). وربّما يمكن تصنيف نظرة أينشتاين هذه بأحسن الأحوال كـ«مادّية ميتافيزيكية» وفي النهاية مثاليّة، لأنّها تنطلق من التجريدات عن العالَم، من «خيوط العالَم»، من «دفعة أولى» رياضيّةٍ أو ذهنيّةٍ ما... وليس من العالَم الواقعي نفسه.

وكما لاحظ لينين في كتابه «المادية والمذهب النقدي التجريبي» عام 1909 (ص314 من طبعة دار «التقدم» بالعربية): «بوسع المادّي الميتافيزيائي، المناهض للديالكتيك، التسليم بوجود المادّة (وإنْ مؤقّتاً قبل «الدفعة الأولى» وما إلى ذلك) دون الحركة. أمّا المادّيّ الديالكتيكيّ فلا يعتبر الحركةَ خاصَّةً ملازِمةً للمادّة لا تنفصل عنها وحسب، بل يرفضُ كذلكَ النظرة البسيطة إلى الحركة».

تشييء المكان من نيوتن إلى أينشتاين

من المفارقات أنّ أينشتاين نفسه يلاحظ، محقّاً، بأنّ نيوتن سبقه في تشييء ما ليس شيئاً: «لكي يمكن النظر إلى دوران منظومة، شكليّاً على الأقل، كحقيقة، يقوم نيوتن بتشييء المكان. وبما أنّه يصنّف المكان المطلَقَ مع الأشياء الحقيقية، يَعتبر الدورانَ نسبةً إلى مكانٍ مطلَق أمراً حقيقياً، وكان بإمكان نيوتن أيضاً أن يدعو مكانَه المطلَق بـ(الأثير)، فالأساسيّ هو فقط أنّه إلى جانب الأجسام القابلة للملاحظة، لا بدّ أن يقوم شيءٌ آخر يمكن النظر إليه بأنّه حقيقيٌّ حتى يمكنَ النظرُ إلى التّسارع والدوران كحقيقة».

ونشعر بحاجة أينشتاين إلى «تعويضٍ» ما عن «أثير» سابقِيه، بعد أنْ سمح لنظريّته النسبية بشطبه من مصافِّ الموادّ. وبما أنّ الأمواج الكهرومغناطيسية كانت تُفسَّر مادّياً بأنّها اهتزازٌ ينتابُ تلك المادّة (الوَسَط/الأثير) المتحرّكة في المكان والتي تخلّص منها أينشتاين، فماذا يتبقّى من صفاتها بعد «تفريغها» مثالياً من مادّتها؟ تبقى فيه أشباحُ مادّة، تجريدات وجودها، مثل «المكان» أو «الزمان» ولكنْ المتصوَّران خطأً بأنّهما يمكن وجودهما دونها، أو «الزمكان» (التجريد الرياضي الهندسي لدى أينشتاين ومينكوفسكي).

ولكي يظلّ مرور الأمواج الكهرومغناطيسية في المكان مبرَّراً، يحاول أينشتاين حلّ مشكلة «وَسَط» المرور، عبر «تشييء» مكانه أو بالأحرى «زمكانه» (لأنه دمج المكان بالزمان) مسمّياً إيّاهُ «أثيراً» جديداً، يأمل منه أداء دور «مادّة» دون الاعتراف به كمادّة، وبما أنّه لم يعد يستطيع نسب الظواهر الكهرومغناطيسية إلى منشأ مادّي بعد التخلّص من الأثير المادّي، يحاول ردَّ مَنشئها إلى «معادلات» رياضية، علماً أنها ليست سوى تعبيراتٍ وصياغاتٍ وعي عقليّ مجرّدةٍ عن قوانين وجودها الموضوعية، فتصبح الظاهرة المادّية لديه مختزلةً في معادلاتها الرياضيّة و«غير قابلةٍ لردّها» إلى سبب مادّي. هكذا يمكن قراءة المقطع التالي من محاضرة أينشتاين:

«بالطبع من وجهة نظر النسبية الخاصّة تبدو فرضية الأثير في البداية فرضيةً فارغة. في معادلات الحقل الكهرومغناطيسي، وإلى جانب كثافات الشحنة الكهربائية لا تُصادَف سوى شدّات الحقل. العمليّات الكهرومغناطيسية وإذْ تسير قُدماً في الخلاء in vacuo تبدو أنّها تتحدّد كلّياً بواسطة هذه المعادلات، بلا تأثيرٍ من كمّياتٍ فيزيائية أخرى. تبدو الحقول الكهرومغناطيسية كوقائع نهائيّة غير قابلة لردّها إلى غيرها، ويبدو في البداية أمراً نافلاً أنْ نفترضَ وَسَطاً، أثيراً، متجانساً، متماثلاً في كلّ الاتجاهات، وأنْ نتصوَّر الحقول الكهرومغناطيسية كحالاتٍ لهذا الوَسَط. ولكنْ من جهة أخرى، ثمّة حُجَّةٌ وازنةٌ للميل إلى تشجيع فرضيّة الأثير. فأنْ نُنكِرَ الأثيرَ يعني في النهاية أنْ نفترضَ عدم امتلاك المكان (الفضاء) الخالي كيفيّاتٍ فيزيائيّة أيّاً تكُن، والوقائع الأساسيّة للميكانيك لا تنسجمُ مع هذه النظرة».

ولكن يجب ألّا تغيب عن البال هنا إشكالية خلط أينشتاين بين مقولتَي «الفيزيائي» و«الرياضيّ»، والتي تتعزّز بقراءة إجابته عن سؤال لماذا «المكان» غير خالٍ «فيزيائياً»: «لا يمكن أنْ يوجد مكانٌ ولا أيّ جزء من المكان بلا كمونات تجاذبية لأنّها تسبغ على المكان كيفيّاته المتريّة التي دونها لا يمكن تصوُّر المكان إطلاقاً». وهنا يجدر بالتوضيح أنّ مصطلح «المتريّ» metric يُقصَد به «الموتِّر المتريّ» metric tensor وهو، بحسب شروحات «النسبية العامة»، كيانٌ رياضيٌّ هندسيّ لتمثيل «الزمكان» رباعيّ الأبعاد (الذي هو تجريد رياضيّ بدوره).

«طاقَويّة» أينشتاين

الفصل المثاليّ بين المادّة والحركة لدى أينشتاين وثيق الصّلة بتأويله للعلاقة الشهيرة بين الطاقة والكتلة E=mc2. ففي محاضرة لايدن نفسها يذكر ما يلي: «طبقاً للنظرية النسبية الخاصّة، فإنّ كلّاً من المادَّة والإشعاع ليسا سوى شكلَين خاصَّين من الطاقة المتوزِّعة؛ سوى كتلةٍ عاديّةٍ تفقد عزلتها وتظهرُ كشكلٍ خاصٍّ من الطّاقة».

ونتذكّر هنا مذهب «الطاقويّة»، الذي يختزل المادّة إلى «طاقة»، يعني إلى «حركة»، وكان من عرّابيه فيلهلم أوستفالد الذي وصفه لينين (في كتابه المادّيّة والمذهب النقدي التجريبي) بـ«الكيميائيّ الكبير والفيلسوف الصغير الذي زعم أنّه يمكن تصوّر الحركة بلا مادّة»، ورفع لينين الاحتجاج المادّي التالي ضدّ أوستفالد والطّاقويّين عموماً: «ولكنْ لا بدّ أنْ يكون للطاقة حامل!».

بين الواقع و«الرياضيّات المقدَّسة»

حذَّر أينشتاين ناشري نسبيّته بعدم وجود أكثر من 12 شخصاً في العالَم يستطيعون فهم نظريّته. وكان الفيزيائي جوزيف طومسون (مكتشِف الإلكترون) يرى أنه «من غير المجدي» تفصيل النظرية النسبية لإنسان الشارع لأنها «لا يمكن التعبير عنها سوى بمصطلحات رياضيّة بحتة». ربّما كان طومسون محقّاً، ولكنْ يبدو أنّ جزءاً مهمّاً من سبب استعصاء نسبية أينشتاين على الفهم يعود أيضاً إلى المشكلات الفلسفية المثالية في أساسها، مثل فصل المادّة عن الحركة واختزال الأولى إلى الثانية، وتشييء المكان ودمجه مع الزمان في «مُتَّصل الزمكان»، عدا عن «المفارقات» غير المعقولة الناتجة عن النسبية الخاصّة (مثلاً ما يسمّى «نسبيّة التزامن»: اعتبارُ إمكانيّةِ أن يكون حدثان موضوعيّان متزامنين بالنسبة لشخصٍ وغير متزامنَين بالنسبة لشخصٍ آخر!).

قال الفيزيائي أبراهام باياس، كاتب سيرة أينشتاين: «اكتشافُ أينشتاين استدعى مواضيعَ أسطوريّة عميقة. رجُلٌ جديد، ظهر واشتهر فجأةً، الدكتور أينشتاين... لغته الرياضية مقدَّسة... لقد لبّى اثنتين من الحاجات العميقة في النفس البشريّة: الحاجة إلى المعرفة، والحاجة إلى عدم المعرفة؛ إلى الإيمان».

(الجزء الأول)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1131
آخر تعديل على الأحد, 04 شباط/فبراير 2024 12:01