التبعيّة الغذائية حتى الموت جوعاً في رأسمالية الأطراف
تشون شو تشون شو

التبعيّة الغذائية حتى الموت جوعاً في رأسمالية الأطراف

يعتمد التطور الرأسمالي على العمل المأجور وعلى رأس المال المتراكم سابقاً، كما قال ماركس «يجب أن يجتمع مالك النقود في السوق مع العامل الحر». وهذا بالطبع يفترض ضمنياً إمداداً كافياً من الغذاء الميسور نسبياً للطبقة العاملة في القطاع الرأسمالي، حيث يؤدي كل من التصنيع والتحضر إلى زيادة الطلب على السلع الغذائية بشكل كبير. ومع ذلك، هناك تناقض بين حاجة رأس المال العالمي للتوسع غير المحدود وبين قدرة الزراعة على المستويات الوطنية على توفير الغذاء الكافي لحاجات رأس المال العالمي. ويلاحظ مؤلِّفُ هذا البحث أنّ «عدم الحصول على الغذاء بأسعار معقولة كان من بين الأسباب الكامنة وراء الثورة الروسية (البلشفية) عام 1917، والثورة الصينية عام 1949، وكذلك الحراكات الشعبية في العالم العربي مؤخراً».

تعريب وإعداد: فيديل قره باغي

ظهرت تجارة الغذاء العالمية كحلٍّ مؤقت لمشكلة الغذاء في التطور الرأسمالي. كانت تجارة المواد الغذائية المتمركزة في بريطانيا حالة خاصة، لأنها كانت أول وأكبر اقتصاد رأسمالي في ذلك الوقت. وربما كانت بريطانيا المكان الوحيد الذي لديه حاجة داخلية لكمية كبيرة من الواردات الغذائية، مقارنة بالمجتمعات التقليدية التي كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي.
كان النظام الغذائي الثاني، بقيادة الولايات المتحدة، هو الذي شهد توسع الرأسمالية في جميع أنحاء العالم، وخاصة في «العالم الثالث». شكّل نقص الغذاء الرخيص في البلدان النامية عائقاً شديداً أمام النهضة الصناعية والتحضّر، وكان الحل الرأسمالي العالمي هو فائض الحبوب من الولايات المتحدة ومن عددٍ قليل من البلدان الأخرى. لذلك ألغى التوسع السريع للرأسمالية أيّ احتمال لأن يقلّد «العالم الثالث» تجربة «قوانين الحبوب» (في تاريخ بريطانيا)، وحرمه من القدرة على إطعام نفسه.
خلال نصف قرن بعد الحرب العالمية الثانية، كانت التنمية الرأسمالية العالمية مدعومة بصادرات غذائية من عدد قليل من البلدان الأساسية. ومع ذلك، أولاً مع أزمة السبعينات، ثم مع أزمة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن الحلول الحالية لمشكلة الغذاء على طريقة التنمية الرأسمالية لها محدودية واضحة. فلو استمر الاتجاه العام على هذا النحو، فمن غير المرجح أن تتمكن بعض البلدان الأساسية من تلبية الاحتياجات الغذائية للتنمية في العالم على الطريقة الرأسمالية.

ليبرالية التجويع والتبعية

من الناحية التكنولوجية، بات العالم بالفعل ومنذ فترة طويلة قادراً على إطعام كل سكان العالم بالتغذية الكافية، لكن الرأسمالية فشلت بالقيام بهذه المهمة. ولا تزال مشكلة الاعتماد على الغذاء وافتقار النظام إلى القدرة على تلبية الطلب العالمي تطارد سوق الغذاء العالمي والرأسمالية بشكل عام. لقد حاولت التعديلات الرأسمالية العديدة منذ السبعينات بشكل أساسي الالتفاف على المشكلة، ولكن دون أيّ نجاح.
نشأت التبعيّة الغذائية عن توافقٍ بين الطبقات الحاكمة في «العالم الثالث» ورأس المال العالمي الكبير في بلدان المركز الرأسمالي منذ الحرب الباردة (أبحاث فريدمان 1982، 1993؛ وبرنشتاين 2016). فمن ناحية، وجدت الولايات المتحدة أماكن لإلقاء الفائض لديها من الحبوب، ومن ناحية أخرى، تهرّبت الدول النامية من واجب تنفيذ إصلاحٍ زراعيّ يلبّي حاجتها الشديدة لبناء زراعتها. تم تعزيز التبعيّة الغذائية بشكل أكبر من خلال «حزَم التكيّف الهيكلي» القسرية وفق وصفات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأيديولوجية الليبرالية الجديدة بأكملها.
كما رأينا من أزمات الغذاء المتكررة، فإنّ حاجةً إنسانيةً أساسية كالغذاء مهمة للغاية بحيث لا يجوز وضعها في أيدي «السوق الحرة» غير الموثوقة ورأس المال العالمي. تتمثل الطريقة الأفضل لإطعام سكان العالم، خاصة في «العالم الثالث»، في تطوير نظام بديل لإنتاج الغذاء والتجارة. بادئ ذي بدء، يجب أن يكون إنتاج الغذاء في النظام البديل موجهاً محلياً ومستداماً بيئياً إلى حد كبير. يمكن لكل بلد، شريطة أن يكون لديه الهِبات الطبيعية اللازمة، أن يطوِّر إنتاجه الغذائي على طريق الاكتفاء الذاتي الذي قد لا يتحقق في كل البلدان، ولكن العديد من دول «العالم الثالث» لديها بالفعل إمكانات غير مستَخدَمة تسمح لها بأن تكون أقلّ تبعيّة من الناحية الغذائية. وسيستلزم هذا التحول إصلاحات زراعية تدعم المنتجين الصغار والتعاونيات وإعادة بناء الزراعة الوطنية. كما يجب أن تشمل الجهود المبذولة لاستخدام محاصيل الغطاء، وتناوب المحاصيل، وكذلك السماد الطبيعي لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري تدريجياً (أبحاث بيمنتل 2009).

اللحوم والنبات والنظام البديل

ثانياً، وبنفس القدر من الأهمية، يحتاج استهلاك الغذاء في النظام البديل إلى تنظيمه وفقاً لمعايير الاستدامة. النظام الغذائي القائم على اللحوم السائد في الولايات المتحدة والعالم المتقدم يتطلب المزيد من موارد الطاقة والأراضي والمياه مقارنة بالنظام الغذائي النباتي، كما أنه غير مستدام على المدى الطويل (أبحاث بيمنتل 2003). يخبرنا تاريخ الخمسين عاماً الماضية مراراً وتكراراً أنه بينما تحاول البلدان النامية تقليد أسلوب الاستهلاك الغربي، يصبح الإمداد الغذائي العالمي غير كافٍ لتلبية كل الطلب. من المهم انتقاد دور التبعية الغذائية في أزمة الغذاء، ولكن من المهم أيضاً إدراك الضرر الناجم عن النظام الغذائي الذي يستند بشكلٍ شامل على اللحوم.
يحتاج هذا التحول تعاوناً بين الحكومات الوطنية بالإضافة إلى تنظيم صارم لرأس المال الزراعي الرئيسي ولاستخدامه للحبوب.

العقبة الرئيسة سياسيّة

التحديات الرئيسة لمثل هذا الانتقال ليست من الجانب التكنولوجي (نحن لسنا في «عالم مالتوس»)، بل التحدي المعيق ناجمٌ عن المصالح الراسخة لرأس المال العالمي الكبير في البلدان الأساسية بقدر ما تستفيد هذه البلدان من تجارة المواد الغذائية، وكذلك بسبب المصالح الراسخة للطبقات الحاكمة في “العالم الثالث» التي تستفيد من «الحلول» الحالية لمشكلة الغذاء.
إنّ الاستمرار في الحل القديم (التبعية الغذائية للعالم الثالث) مكلف بشكل متزايد وعرضة للأزمات، لكن من الواضح أن إجراء الانتقال يتعارض مع مصالح جزء على الأقل من الطبقة الرأسمالية.
بحلول عام 2015، كان لا يزال لدينا 795 مليون شخص في العالم يعانون من الجوع، أغلبيتهم الساحقة (780 مليون) في العالم النامي (وفق منظمة الأغذية والزراعة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية وبرنامج الأغذية العالمي 2015). في الوقت نفسه، كما قلنا، فإن هذا النظام الغذائي الحالي ضعيف وغير مستدام.
إنّ نظاماً غذائياً بديلاً هو ضروري وممكن. يجب أن يتضمن الخروج عن النظام الحالي تغييرين رئيسيين: أولاً: يجب أن يكون الإنتاج الغذائي العالمي موجهاً محلياً ومستداماً. ثانياً: يجب أن يكون الاستهلاك العالمي قائماً بشكل رئيسي على النباتات بدلاً من النظم الغذائية القائمة بشكل رئيسي على اللحوم. ستتطلب مهمة إنهاء النظام القديم والانتقال إلى نظام أكثر إنسانية واستدامة جهوداً من الحركات الشعبية ومن الباحثين الأكاديميين. إنّ مستقبل الغذاء في نهاية المطاف في أيدينا.

  • تشون شو: باحث صيني وأستاذ مساعد في الاقتصاد بجامعة هوارد (في واشنطن). تشمل اهتماماته البحثية الاقتصاد السياسي والتنمية الاجتماعية والاقتصاد الصيني. تم تعريب المقال بتصرّف عن قسم من بحث أطول للمؤلّف، عنوانه الأصلي «التبعية الغذائية وأزمة الغذاء العالمية»، منشور في 5 حزيران 2019 في «مجلة الفكر النقدي الدولي» International Critical Thought.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1024