الهندسة البسيطة في عمليات التفكير

الهندسة البسيطة في عمليات التفكير

قد يبدو غريباً للبعض القول إن العلاقات الرياضية موجودة في جزء من عمليات التفكير البشري، وإحداها هي الهندسة البسيطة التي تساهم في صياغة التفكير واللغة وصولاً إلى الكتابة، والتي يساهم فيها الدماغ البشري كجسم مادي بالغ التعقيد، وسنضرب بعض الأمثلة المنتقاة حول الموضوع مثل الدوائر المفرغة والدوائر المتتابعة والهرمان المتناقضان. وتمتاز تلك الهندسة البسيطة بأنها موجودة ولا يمكن إلغاؤها ولكن يمكن التحكم بها.

الدوائر المفرغة

من أبسط العلاقات الهندسية المعروفة هي الدوائر المفرغة التي لا تؤدي إلى نتيجة، ويشتهر بها الجمهور وأصحاب الموقف اليومي في السياسة والمواد التي تبثها إمبراطوريات الإعلام. حيث تؤدي هذه الدوائر مهمة إبقاء الأفكار في حالة دوران دائم دون القدرة على التوصل إلى نتيجة أو حل، وفي حالات أخرى منع التوصل إلى حلول ونتائج عند احتراف التحكم بها. وأصحاب هذا التفكير عادة يعجزون عن الوصول إلى الصورة العامة للقضايا ويواصلون الغرق في آلاف القضايا الخاصة دون التوصل إلى نتيجة. 

درست منظومات الحرب الإعلامية هذه الحالة بشكل جيد، وبذلت جهوداً ضخمة ليبقى وعي الجمهور محصوراً ضمن هذه الدوائر عبر التحكم بهذه الحالة وصولاً إلى منع التوصل إلى حلول ونتائج. وهنا استفادت منظومات الحرب الإعلامية من علوم مختلفة مثل علم النفس ونظرية المعرفة ودراسة التفكير البشري لتؤيدي مهمة التلاعب بالوعي عبر التحكم الواعي بالدماغ وعمليات التفكير. 

الدوائر المتتابعة

على نقيض الدوائر المفرغة، تقف الدوائر المتتابعة، وهذا الشكل من الدوائر هو التفكير في حالة الدوران الدائم أيضاً ولكن مع توقف نسبي، مع السعي المتواصل إلى الحلول والنتائج. 

ولهذا الشكل من التفكير عدة مستويات:

المستوى البحثي الفردي والجماعي حيث يعمل العلماء عادة على قيادة عدة ملفات معاً، فالعالم يعمل على الملف الأول لفترة، ثم يتركه إلى الثاني فالثالث، ويعود إلى الأول ليكمل ثم الثاني فالثالث، ثم يعيد الكرة حتى يتوصل إلى نتائج تخص جميع الملفات التي يعمل عليها بشكل متتابع.

المستوى الكتابي الفردي والجماعي، وهو إسلوب الدوائر في تحرير النصوص في الكتب ووسائل الإعلام وكل ما هو مكتوب. تفتتح الجملة الأولى نصاً، وتبدأ الثانية بالفكرة الأخيرة في الجملة الأولى، وهكذا حتى نص إلى الأخيرة، كما يمكن أن تعمل خلال المقاطع المكونة من عدة جمل، فيبدأ المقطع الثاني من الفكرة الأخيرة في المقطع الأول وهكذا بشكل متتابع. 

المستوى التاريخي، وهو جماعي في محصلته النهائية وفردي وجماعي في تراكمه اليومي المتواصل من الماضي إلى المستقبل، أي محصلة الفكر التقدمي للبشرية واكتشافاتها العلمية وصولاً إلى الجوانب غير المكتشفة من واحدة إلى أخرى. وهو جهد العالم الفلاني في حل القضايا المعينة، يضاف إليه جهد العالم الآخر ... إلخ. وهذا الشكل من التفكير يمتاز به الباحثون في العلوم الطبيعية والتطبيقية الذين يحققون الاكتشافات وممثلو الفلسفة والأحزاب الماركسية اللينينية.

الهرمان المتناقضان

تحدثنا في عدد سابق كيف يركب سكان المدن صياغات الجمل في عصر الرأسمالية، فهم يصيغون جملهم باختصار «الهرم المقلوب»، ويأتي أهم ما في الكلام في الجملة الأولى ثم الأقل أهمية، بينما يركب سكان الأرياف صياغات الجمل بشكل نقيض تماماً «الهرم المعتدل» ويأتي أهم ما في الكلام في النهاية والأقل أهمية في البداية. ويعود هذا النوع من الصياغات اللغوية إلى العصر الإقطاعي.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى أشكال اللغات الأخرى مثل: لغة الإشارة القديمة ولغة التصفير في جزر الكناري ولغة الصياح عند مزارعي الشاي في الجبال التركية والإيرانية واللغة التجارية لبائعي الأسواق الدمشقية، فالاختصار هو سيد الموقف، ويعيش الهرم المقلوب داخل الصياغات اللغوية بشكل رئيس.

من عمليات التفكير وصياغة اللغات وصولاً إلى تحرير النص الكتابي، يعمل الهرمان المتناقضان متصلان أو منفصلان، وإذا كتبنا تاريخ الهرمين لن نستطيع كتابته إلا وفق إسلوب الدوائر المتتابعة، يختفي أحدهما فيعمل الثاني منذ ظهور الكتابة واللغات وبشكل متتابع، بحيث يعود الأول إلى الثاني وبالعكس.

أما سر تلك الدوائر والأهرام، فهو موجود في ديالكتيك العلاقات والروابط التي يعود اكتشافها إلى الفلسفة العربية الإسلامية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
924
آخر تعديل على الثلاثاء, 06 آب/أغسطس 2019 01:36