بعد اغتياله للبشر...الكيان الصهيوني يغتال البحر

يواصل الكيان الصهيوني الخارج على القانون جرائمه البيئية دون رادع. فمن فضائح التسرب الإشعاعي من مفاعل ديمونة المتهالك، إلى "السر المكشوف" لحيازة الكيان 450 رأساً نووياً مخصصة لقتلنا وقتل الحياة على أرضنا (لا تراها الوكالة الدولية للطاقة الذرية المشغولة بملاحقة الدول التي تسعى لاستخدام الطاقة الذرية سلمياً)، 

إلى دفن النفايات النووية والكيميائية في الجولان المحتل، إلى نهب الموارد المائية للضفة والقطاع والجولان ومزارع شبعا لصالح قطعان المستوطنين القتلة، إلى اقتلاع زيتون فلسطين الذي يلخص حكاية الإنسان العربي المتجذر في أرضه المتفاعل مع بيئته عبر القرون والألفيات، وصولاً إلى التلويث المتعمد للبحر في خرقٍ فظ وقح لما التزم به الكيان في اتفاقية برشلونة لحماية المتوسط للعام 1976وملحقها المختص بالطرح البحري، مسلسل لا ينتهي من الممارسات الإجرامية بحق البشر والبيئة تكشف مدى الحقد والاحتقار الذي يكنه هؤلاء العنصريون لنا نحن العرب كما لغيرنا من شعوب المنطقة، وتؤكد بالدليل الملموس أنهم لا يعيرون أي اهتمام لسلامة البيئة الإقليمية. إنهم يتصرفون على هذا الصعيد كمستولٍ بالقوة على شقةٍ في مبنى متعدد المساكن، يرمي أقذاره على درج المبنى وفي مدخله، ويُعمل يد العبث والتخريب في مرافقه بل وحتى في أساساته غير مكترثٍ بمصيره. فهل مرد ذلك أنهم يدركون في أعماقهم بأنهم عابرون في هذا المبنى ولا بقاء لهم فيه بين أصحابه الشرعيين ؟، أم لأن من زرعوهم في المبنى، وحَموهم ومَوَلوهم ودججوهم ضد سكانه، قد لقنوهم أنهم فوق القانون، وطمأنوهم أن ردود فعل السكان سيجري تمييعها وضبطها (ذاتياً !) باليد الخفية للمافيا المسيطرة على "القرية العالمية" بأسرها ؟، أم الاثنان معاً ؟.

ما يمارسه الكيان الصهيوني من خرق منهجي روتيني لملحق (بروتوكول) الطرح البحري للنفايات في البحر المتوسط الذي توافقت عليه الدول المشاطئة منذ العام 1978 وانضم الكيان إليه منذ العام 1984، هو على درجة من الخطورة بما يتيح القول و أنه ليس فقط من الجرائم التي يطالها القانون الدولي البيئي، بل يلامس مستوى جرائم الحرب والإبادة.

"إسرائيل"هي البلد الوحيد في العالم المعروف بأنه يسمح بعمليات طرح بحري روتينية للنفايات الصناعية

هذه العبارة واحدة من العديد من العبارات المشابهة التي يحفل بها أرشيف تقارير منظمة "السلام الأخضر" Greenpeace، وهي منظمة بيئية تطوعية عالمية تهتم بشكل أساسي بقضايا التلوث البحري ولديها سفن وزوارق للأبحاث والمراقبة والملاحقة. وقد نفذت هذه المنظمة حملة في العامين 1997-1998 لكشف النقاب عن ممارسة الكيان الصهيوني للطرح البحري للنفايات السامة في مياه المتوسط، وذلك حسبما ورد في تقرير حديث صدر عن خطة عمل المتوسط MAP، وهي منظمة إقليمية للدول المتوسطية مقرها في العاصمة اليونانية أثينا تتبع إلى "برنامج الأمم المتحدة للبيئة" UNEP، رقم التقرير WG.266/2 وعنوانه بالإنكليزية: Report on Dumping Activities in the Mediterranean Sea for the Period 1995-2001 (تقرير حول أنشطة طرح النفايات في البحر المتوسط للفترة 1995-2001)، وقد تم تقديمه إلى حلقة بحث متوسطية خاصة بالموضوع عقدت قبل أشهر في العاصمة القبرصية نيقوسيا، ولمزيد التوضيح فالتقرير يتحدث تحديداً عن طرح مقصود متعمد لنفايات صناعية سامة بكميات كبيرة جداً يجري نقلها إلى عرض البحر بواسطة سفن مخصصة لذلك، وليس عن أي شكل آخر من أشكال وصول الملوثات إلى البحر.

نفايات صناعية سامة، وبكميات كبيرة جداً ؟  فما هي أنواع هذه النفايات وكم تبلغ كمياتها؟

المعلومات التالية المستمدة من التقرير المشار إليه أعلاه (ص 11 و 12) يلخص ما أفصحت عنه سلطات الكيان عن نوعيات وكميات النفايات التي صرحت رسمياً بطرحها في بحرنا بين العامين 1995-2001، وأرجو من القارىء الكريم أن يمسك أعصابه جيداً:

هالوجينات وسيليكونات عضوية، كمية غير معلومة محظورة بالمطلق بموجب المادة 4 من البروتوكول، مركبات الزئبق والكادميوم/270 000 م3

مركبات حمضية وقلوية /132 000 م3

محظورة بالمادة 4 ما لم توافق 3/4 الأطراف المتعاقدة على السماح بأنواع محددة وبكميات محدودة، فلوريدات، كمية غير معلومة،مقيدة بالمادة 5 من البروتوكول، زرنيخ، رصاص، نحاس، زنك، بيريليوم، كروم، نيكل، فاناديوم، سيلينيوم، أنتموان، ومركباتها / كمية غير معلومة

إغراق سفن / 12 إذن بالإغراق بذريعة الاستخدام كجروف أو حيود بحرية Reef ومواقع غوص

مجرّفات قاعية / 40 إذن طرح مقيدة بالمادة 6 من البروتوكول

مواد عضوية طبيعية المنشأ / 9 أذونات طرح دائمة بكمية 600  م3 أسبوعياً

مخلفات أسماك أو تصنيع أسماك أو متعضيات بحرية أخرى / 6 أذونات طرح دائمة بكمية300  م3  أسبوعياً

مواد أخرى: محاليل ملحية من وحدات التحلية ومن مخلفات الطلي بالمعادن

في قراءة في ما سبق يجب ملاحظة النقاط التالية:

- أن الأنواع المرعبة الواردة سابقاً بالكميات الهائلة المذكورة هي فقط ما أفصحت عنه سلطات الكيان إلى "خطة عمل المتوسط" عن عمليات طرح بحري تمت بموجب أذونات رسمية مسجلة في القيود، وليس بمقدور "الخطة" التحقق من دقة هذه القيود أو مطابقتها للواقع، وقد يكون المخفي أعظم

- من المؤكد أن هذه الأذونات لا تشمل سوى الأنشطة "المدنية" في الكيان، أما الطرح البحري لمخلفات الصناعة الحربية (وهي أكبر قطاع إقتصادي في الكيان)، والتخلص في البحر من الذخائر الحربية التفجيرية والكيميائية منتهية الصلاحية، فيتمان بالطبع من القوى البحرية ومن خارج القيود المدنية، كما هو الحال لدى الدول الأخرى التي تقوم بذلك

- من بين المفصح عنه بعض الأنواع بالغة السمية والخطورة (كالهالوجينات العضوية والفلوريدات والمعادن الثقيلة) لم تفصح سلطات الكيان عن كمياتها (؟!)

- يكشف أرشيف "السلام الأخضر" عن أنواع أخرى تم التحقق من طرحها في البحر بالطريقة نفسها في الفترة التي يغطيها التقرير ولم تفصح عنها سلطات الكيان إلى "خطة عمل المتوسط"، منها مواد مسرطنة كالفحوم الهيدروجينية متعددة الحلقة العطرية PAH وألكيل البنزن وغيرها من المواد المشتقة من النفط وهي محظورة بالمطلق بموجب المادة 4 من البروتوكول

- المعطيات عن المواد المصنفة في المجموعات الخمس الأولى في الجدول (الخاضعة لأحكام المادتين 4 و 5 من البروتوكول) تعود إلى الأعوام من 1995-1998 فقط، وقد توقفت سلطات الكيان عن تقديم معلومات عنها في السنوات اللاحقة مكتفية بإعطاء معلومات عن المواد الأخرى الخاضعة للمادة 6 الأقل تشدداً من سابقتيها نظراً للطبيعة الأقل ضرراً للمواد الخاضعة لها (مواد عضوية طبيعية المنشأ ومخلفات أسماك)، ولا يشير تقرير "خطة عمل المتوسط" إلى سبب هذا الانقطاع عن تقديم المعلومات لكن من اللافت تزامن ذلك مع تصاعد حملة "السلام الأخضر" حول الموضوع في العام 1998

- لا يوجد مثيل أو نظير، ولو من بعيد، لهذه الانتهاكات، لا نوعاً ولا كماً، في التقارير الوطنية المقدمة إلى "الخطة" من قبل أي دولة متوسطية أخرى، وهذا يضعنا أمام أحد احتمالين: إما أن الدول الأخرى ملتزمة فعلاً باتفاقية برشلونة وبروتوكولها المختص بالطرح البحري، أو أنها تنتهكها وتخفي ذلك ووحده الكيان الصهيوني بلغت به الوقاحة حد اللامبالاة بالتصريح عن انتهاكاته، أو عن جزء منها، على الأقل حتى العام 1998

- يشيد تقرير "خطة عمل المتوسط" بجهود منظمة "السلام الأخضر" في الكشف عن أن "بعض الدول المتوسطية لم تتصرف طبقاً لأحكام اتفاقية برشلونة، وبالأخص بروتوكول الطرح البحري"، لكن المؤسف أن التقرير لا يسمي الدولة المكشوفة الوحيدة المعنية بذلك "إسرائيل" إلا في حاشية النص وبصورة خجولة غير مباشرة لا تتناسب إطلاقاً مع حجم الإنتهاك-الجريمة

بقي أن نجيب على تساؤل لابد وأنه يدور الآن في أذهان بعض القراء: وهل يعقل أن يبصق الكيان في البئر التي منها يشرب، أن يسمم المياه والشواطيء الشامية الجنوبية (الفلسطينية) التي اغتصبها ويستنزف ثرواتها، وأن يتسبب بإصابة مستوطنيه بالأمراض القاتلة ؟

في تقرير صادر عن "السلام الأخضر" مؤرخ في 6/8/1998 وعنوانه " سفينة دانمركية تطرح نفايات إسرائيلية سامة في البحر المتوسط " ربما نعثر على مفتاح الجواب لهذا التساؤل في المقطع التالي الذي أنقله إلى العربية:

" تقوم السفينتان سكانديا (دانمركية مستأجرة) وأريبل (صهيونية) حالياً بأعمال منتظمة لطرح الحمأة السامة في منطقة تبعد نحو 50 كيلومتراً في المياه الدولية قبالة مدينة حيفا. وفي 16 حزيران الماضي اعترض نشطاء السلام الأخضر على متن زوارق خفيفة السفينة أريبل ليلاً أثناء قيامها بضخ الحمأة السامة في تلك المنطقة وقاموا بتوثيق هذه الواقعة "

بهذا المفتاح نلج إلى استنتاج الجواب: فمن المنطقة التي ضُبطت فيها أعمال طرح النفايات السامة، يمر التيار البحري المسمى تيار شرق المتوسط الجنوبي Southern Levantine Current (المرقم 3g في الصورة التالية) مندفعاً نحو الشمال ليحمل الملوثات السامة إلى المياه البحرية والشواطيء اللبنانية، ثم يلتقي بتيار "دفّاق وسط المتوسط" (المرقم 3f) ليشكلا معاً "تيار آسيا الصغرى" (المرقم 9) الذي يواصل نقل الملوثات إلى المياه والشواطيء السورية والقبرصية والساحل الجنوبي لتركيا، فلا تصيب السموم الصهيونية إلا العرب وباقي الأغيار (الغوييم)، ويُنَجّي "رب إسرائيل" أبناء "شعبه المختار" !

مخطط التيارات البحرية في حوض المتوسط الشرقي مسقطاً على صورة فضائية

بعد كل ما تقدم أليس من حقنا أن نسأل "خطة عمل المتوسط" (التي تساهم في تمويلها كل من سورية ولبنان وقبرص وتركيا وباقي الدول المتوسطية): ماذا فعلتم أيها السادة لوقف الانتهاك الصريح ومحاسبة الفاعل ؟ ترى ألا يستحق كل هذا الإجرام بحقنا نحن "الغوييم" وبحق بحرنا أن تطالبوا السيد كوفي أنان ع/ط التسلسل بتشكيل لجنة تحقيق دولية (على أن لا يرأسها ميليس نجس ما !) لكشف الحقائق ومحاسبة الفاعل المعروف بمفعول رجعي ؟

كما نقف لنسأل أنفسنا وجيراننا من السكان الشرعيين الدائمين للطابق الشرق متوسطي من المبنى المتوسطي: ماذا نحن وأنتم فاعلون لوضع حد للبلطجي الأزعر الذي استولى بالقوة منذ عقود على أجمل وأطهر مسكن في طابقنا ومبنانا، فطرد أصحابه وعبث بمحتوياته، ثم ما لبث أن أحاله بؤرة مخيفة للمفاسد والتلوث، وهاهي بلطجته وقذارته قد ملأت الطابق والمبنى بل وشملت "القرية" بأسرها بحماية ومعونة عصابة الأشرار العالمية وزعيمها القاطن في البيت الأسود على الطرف الغربي من القرية ؟

ونهمس في إذن سلطاتنا الوطنية المختصة: هل يضيع حقٌ وراءَه مُطالِب ؟

■ حسني العظمة

 

باحث في قضايا البيئة