عصر التحوّلات الضخمة في العلوم والتكنولوجيا

عصر التحوّلات الضخمة في العلوم والتكنولوجيا

هل تتغير العلاقات الاجتماعية تحت تأثير التغيرات النوعية الضخمة التي تحدثها العلوم والتكنولوجيا بأشكالها كافة؟ هل يتغير معيار القيم ليتكيف مع تلك التغيرات أيضاً؟

في ذلك السياق، نجد أن اليد امتدت للتشكيك في دور الدولة وأهميتها. إذ ناقش البعض مستقبل الحكومات الفعليّة وضرورة تحوّلها حكومات افتراضية تدير وتنظم وتتدخل في الشأن الخاص وتعظم الفردانية على نحو مطلق.

الأرجح أن تلك اليد تمثل الرأسمالية المتوحشة التي تتاجر في المبيدات المميتة، والأسماك المسمَّمة، ونفايات النشاط الإشعاعي، والمواد الصناعية المسببة للسرطان، وأنواع البكتريا المستولدة اصطناعيّاً في المختبرات بواسطة بحوث علمية وغيرها. في العادة، تتصدى الحكومات لمنع تلك النشاطات المضرة بالإنسان، بل لو أنها تركتها لما بالتْ بأن تفني البشرية كي تحقق مكاسب مادية لقلة من الناس!

إذاً، يبقى للدولة أهمية في كبح جماح البعض، وممارسة أدوار رقابية وتنظيمية قوية. وبديهي القول إن نجاح الصين الحديثة المستند إلى سلطة مركزية قوية، هزَّ بقوة فكرة انسحاب الدولة تدبر شؤون المجتمع والناس والاقتصاد وغيرها.

واستطراداً، لم تكن المرأة عبر التاريخ خارج سوق العمل، لكن الثورة الصناعيّة في أوروبا جعلت الناس يتنافسون على أسس فرديّة بغض النظر عن الجنس. وترقت سيدات إلى وظائف عليا. وتنافسن مع الرجال من أجل الربح الشخصي والترقي الاجتماعي. وترتب على ذلك عزوف النساء عن إنجاب الأطفال، وتأخر سن الزواج على نحو متزايد، في المقابل تزايدت حالات الطلاق، حتى أن أفكار الزواج والأسرة تتراجع بسبب تلك الأوضاع. واستطراداً، تبدو الأسرة مهددة من قِبَل الشباب ذكوراً وإناثاً. ويتبدى ذلك بوضوح في عدد من الدول الصناعية ككندا وإيطاليا وألمانيا والولايات المتحدة، كما بات مؤثراً بصورة أو بأخرى في بلدان كمصر وتونس ولبنان. إذ ارتفع سن الزواج في المدن الكبيرة الصناعية أو التجارية، وتزايدت حالات الطلاق فيها. هل الحياة الاستهلاكية ونماذجها هي السبب في ما تشهده مصر وتونس ولبنان؟ هل يفسر ذلك أيضاً بالتقدم الصناعي والتكنولوجي؟ هل هناك أسباب أخرى ربما تجعل الوضع متفاوتاً بين البلدان الثلاثة؟

منظومات السلوك والثقافة اليومية

بديهي القول إن فكرة التنافسية في العمل مكرسة بقوّة في الدول الصناعية، وزادت حدّتها مع حلول الآلات تدريجياً بديلاً للبشر. وفي اليابان، ثمة نموذج قوامه الاعتماد على الروبوت بصورة أساسية، وهو يساند ميل أصحاب الأعمال إلى الاستغناء عن العمال. وبذا، صارت الصناعات تعتني بالمهارات الفنية التي تحتاجها عناية فائقة، لكنها تستثمر في الفرد الماهر، وتهمل أسرته وحتى محيطة الاجتماعي. وبات الخبراء والعلماء يتفانون في عملهم بحماسة تنافسية خارقة، وأعطوا الشركات والمصانع والجامعات ومختبرات البحوث علومهم وقدراتهم الإبداعية. وصارت النخبة العلمية «مدمنة» على العمل، وصارت تدفع لها أجور تفوق ما يتقاضاه الوزراء في حكومات بلدانهم. هل الفرد المبدع والمدمن على العمل هو إنسان متماهٍ ومتَّحِدْ بشخصه وذاته مع عمله وإنتاجه، بل هناك حال من التماهي التام بين الطرفين؟

في حقيقة الأمر، انتقل ذلك التماهي من تلك النخبة المتمرسة إلى الأجيال الجديدة التي باتت أيضاً مدمنة على أشكال التقنيات الجديدة، كالأجهزة اللوحية أو الهاتف المحمول. وكذلك اتحد الشباب مع الشاشات، وحلّت الأجهزة الإلكترونية لديهم محل الأسرة والأصدقاء والمجتمع إلى درجة تهدد قدراتهم على التواصل مع الآخر أياً كان. وصاروا يبنون عالمهم عبر تلك الشبكات، وأصبحوا منغمسين في تلك العوالم، بل يبحثون فيها عن مجتمع افتراضي. وفي ظل تلك الصورة، صار الشباب المتحد مع الشاشات فريسة سهلة لجماعات التطرف، بما فيها تيارات العنصرية الحمقاء.

وتقود تلك المعطيات إلى القول إن ثقافة المجتمع صارت توازي فعليّاً قدرته على البقاء والمقاومة. وتعرَّف الثقافة بأنها مجموعة من السلوكيات والمعرفة التي مررت من فرد إلى آخر عبر التفاعل بين أفراد المجتمع. وكذلك تعرَّف النظم الثقافية بأنها شبكات معقدة من السلوكيات المترابطة المتكيفة. واستطراداً، تجدر الإشارة إلى أن المعرفة تمثّل أيضاً أدوات يستخدمها البشر من أجل تحقيق أهداف أو حل مشاكل. وكذلك تبرز الأفكار الثقافية تخاطب الناس الذين يدركون أن في مصلحتهم استخدامها، لكنها لا تصمد أمام تحدي الزمن، فتذوي وتندثر. يظهر مثل على ذلك في مصر بعادة إقامة عزاء بعد مرور أربعين يوماً على وفاة شخص ما. إذ عرف المصريون ذلك السلوك منذ قديم الأزل، لكن تلاشى تدريجياً ويكاد يختفي حاضراً.

يملك كل إنسان مجموعة من الأدوات السلوكية والأيديولوجية والاجتماعية يختارها في محاولة لتحقيق غايته، كالحصول على الغذاء والترفيه ووسائل الراحة والصعود الاجتماعي والاستحواذ الاقتصادي وغيرها.

ويحوز كل إنسان تجربة ذاتية في اختيار تلك الأدوات. وهناك من يستسلم للأنماط السائدة فيختار ما يختاره آخرون. وهنالك من ينوع خياراته. وفي نهاية المطاف، هناك أنماط محددة في كل مجتمع يفرضها الذين يديروه، وبالتالي تقع على عاتقهم مسؤولية بقاء تلك الأنماط.

الإنسان وأهدافه الوجودية

في المقابل، يقع على عاتق المجتمع مهمة قبول أو رفض خرقها الذي يأتي عادة لإحداث تغيير، سواء أكان سلبياً أو إيجابياً.

كيف تكون الحال إذا كان المجتمع يعتمد في شكل مفرط على الفردانية، في ظل وضع يكون الأفراد فيه في حال اتحاد وتماهٍ مع آلات تعمل على صنع مجتمع آخر افتراضياً، بات دوره يتصاعد باطراد؟

تولي هرمية السلطة في المجتمع أو الدولة أو الأسرة، لمن يكون على رأس ذلك التسلسل الهرمي، القدرة على فرض سلطته واتخاذ القرارات الحاسمة، إضافة إلى السعي لتحقيق مصالح معينة على حساب المجموع العام.

ويفضي ذلك إلى فرض قيود على سلوك الأفراد، كما يحد من الفرص المتاحة لهم. وتتصرف السلطة وفق تلك المعطيات، فتتحكم بمصالح من تمارس عليها سطوتها.

وهناك تغيير في طريقة تجديد قيم المجتمع. وفي العادة، يميل الناس تلقائياً إلى الاستغناء عن أداة سلوكية معينة إذا ثبت فشلها، بغض النظر أساسها الأيديولوجي. وتبدل الأمر في عصر السيطرة المتصاعدة للآلة، خصوصاً أن الذين يتحدثون عن ذكائها وقدرتها على الإدراك، ينسون أن مبتكر الآلة هو الإنسان. يجدر عدم التغافل عن أنّ الإنسان هو الذي أتاح لآلة أن تحدد مشاعره ورغباته وهوياته، بل تسلبه وقته كي تسيطر عليه عبر عملية إلهاء لا تتوقف! هل يستطيع الإنسان وقف تلك الأداة السلوكية أو حتى تحجيم تأثيرها فيه؟

دور العواطف العميقة في تحطيم سيطرة الآلة

لا شك في أن العواطف تزود الإنسان بطاقة إيجابية، إذ تستمد من الروح الإنسانية، وهو ما تفتقر إليه الآلة. تمثّل المشاعر الإنسانية الصمغ الذي يحفظ النظم الثقافية. وميل الناس للحب والكراهية والإهداء والعطاء وممارسة الشعائر الدينية والموروثات الشعورية نحو الأقرباء، كلها لا يمكن أن يكون للآلة دور فيها. وحتى لو أدركت الآلة نتيجة تطويرها برامجياً، أحاسيس البشر فهي ستظل عاجزة عن إدراك المشاعر على طبيعتها. بالأحرى أن الحياة الإنسانية فعل فيه روح وحركة ديناميكية متمايز نوعياً عن فعل الآلة الخاضع للحساب الرقمي الدقيق. ويحلم عدد من الأفراد بتحرير أنفسهم من النظام الثقافي المعقد، بينما البشر قادرون على إعادة تشكيل نظام ثقافي لجعله يتناسب مع تطلعاتهم نحو الأفضل. وليس من المستطاع العيش من دون نظام ثقافي يحدد طبيعة تفاعل الناس بعضهم مع بعض، بل لا يمكن الناس أن يختاروا في مسائل على غرار المشاركة في النظام الثقافي! وببساطة، من دون تلك المشاركة لا يمكن البشر البقاء على قيد الحياة، وكذلك الحال بالنسبة إلى مسألة تعلم قواعد مناسبة للمشاركة والتفاعل بين البشر. وإذ يصح القول إن الناس ربما انهاروا من دون الأدوات التكنولوجية، يصح القول أيضاً إنهم لا يقدرون على البقاء أحياء من دون الأدوات الثقافية المعرفية التي تمكنهم من العمل في مجتمع معقد.

هناك حقيقة بديهية يصعب التغافل عنها، وهي أن البشر مقيدون، حتى الملوك والوزراء والنخب الإنسانية كلها. ويعمل النظام الثقافي على إنتاج تلك القيود، ما يوجب دعم ذلك النظام وخصائصه، على رغم كونه معقداً في العادة وغير مفهوم بالنسبة إلى شرائح واسعة من الناس.

وتتوجب مساندة النظام الثقافي الإنساني حتى لو شعر بعضهم بأنه يعمل ضد مصالحهم المباشرة عبر قيوده، لأنها هي التي تحميهم (من الناحية الأخرى) من تغوّل سلطة من يقفون على رأس الهرم التسلسلي في الاجتماع والسياسة وغيرهما.

عبر تلك المعطيات، تتوضح أهمية الثقافات المعقدة والمركبة التي من خصائصها أنها تعيد بناء نفسها بنفسها وفق مقتضيات السياق الزمني.

وكذلك تتيح للمجتمع القدرة على التعايش بمتناقضاته كلها. وتأتي أمثلة على ذلك من الثقافة الهنديّة الحافلة بالتناقضات المتعايشة، وكذلك مصر التي تبدي تاريخياً قدرة مذهلة على التعايش، من غزو الإسكندر إلى الفتح العربي إلى العصر الحديث. كم مرة أعادت الثقافة المصرية إنتاج نفسها عبر العصور؟

يملك معظم الناس القدرة على استيعاب القيم الأساسية لمجتمعاتهم. ويدركون أن عدم التفاعل معها سلوكياً يؤدي إلى تهديد فرص الجميع في البقاء أو النجاح، وشيوع جرائم تهدد النسيج الاجتماعي ومصالح الغالبية. وفي المجتمعات كافة، هناك مَن يشكل تهديداً لمصالح الغالبية ويخرج عن قيمها يتم تهذيبه وإصلاحه، ويتوجب وجود منظومة ترابط اجتماعي تمثلها منظومة القيم التي باتت على محك صعب. إذاً، ما هي التغيرات التي يمكن أن تحدثها الثورات العلمية والتكنولوجية في منظومة القيم؟ ماذا يجب أن يقول الماضي والحاضر للمستقبل؟