«واتسآب» من الرسائل النصية القصيرة إلى المنصة الخبرية

«واتسآب» من الرسائل النصية القصيرة إلى المنصة الخبرية

الصرعة الإعلامية الشعبية الجديدة المقبلة، أو ربما التي وصلت لكن اختارت الهدوء وآمنت بالسرية وآثرت الاستمتاع بالخصوصية، هي «واتسآب». ولكن كثيرون يظنون أن أقصى ما يمكن عمله على تطبيق التراسل الأشهر في العالم هو إرسال رسائل مكتوبة أو صوتية أو صور أو ما شابه من هذا إلى ذاك، أو جعلها معروفة بين أعضاء مجموعة الأسرة المدشنة أو جماعة العمل غير المعلنة. لكن «واتسآب» يتغير ويتبدل ويتحول إلى منصة إعلامية تحليلية تقف على طرف النقيض من الصخب التلفزيوني الدائر، والشلل الصحافي الورقي الحادث، واللغط المعلوماتي الدائر حول محتوى المواقع الخبرية.

آلاف المجموعات التي تتبادل في ما بينها وجبات يومية من الأخبار المنتقاة وفقاً لوجهات واهتمامات وأهداف الأعضاء الضالعين في مجموعة الـ «واتسآب»، مثل «اتحاد مؤيدي الدولة» «رابعة في القلب» «مجموعة الدفاع عن الأطباء» «جماعة دعم الصحافيين» «الأخبار الطازجة والتحليلات الثاقبة» وغيرها.

«لا إعلانات أو ألعاب أو سبل ملتوية لجمع المال من المستخدمين». هذه هي القاعدة المتينة والتي تجذب المجموعات والأفراد من الراغبين في تبادل المعلومات والأخبار والنقاشات الهادئة المنتقاة من دون تشتيت للانتباه أو اقتحام من الإعلانات أو مباغتة من أصحاب الآراء والتوجهات المغايرة والقادرة على إفساد صفو نقاش الجماعات المتشابهة. هذه القاعدة هي عقيدة «واتسآب» التي انطلق منها التطبيق قبل ثماني سنوات.

نائب رئيس تطوير الأعمال لخدمة التراسل الفوري «واتسآب» المهندس نيراج أرورا تحدث في «القمة العالمية للحكومات» التي انعقدت في دبي الأسبوع الماضي، عن قصة نجاح قوامها 55 بليون رسالة يومياً. يقول أرورا إن نجاح «واتسآب» اعتمد على المستخدم وتقديم تطبيق سهل ومريح له لا يمكّنه فقط من تبادل الرسائل، بل يقترحه لأصدقائه ومعارفه وأفراد أسرته دافعاً عجلة «واتسآب» للنمو المستمر، وممكناً إياها من التحول من بداية متواضعة لكتابة الرسائل إلى حل عملي بليوني للاتصال بين الناس على الكوكب.

الجانب العربي من الكوكب حافل بكم هائل من المجموعات التي تتبادل الأخبار وتخضعها للتحليل والتفنيد، كل وفقاً لتوجهه وأيديولوجيته ونظرته للأحداث. محتويات بعض هذه المجموعات أقرب ما تكون إلى المنصات الإعلامية الكاملة المتكاملة حيث يوجد الخبر والفيديو والتعليق والتحليل والنقاش. ولأن الرسائل «يفترض» بها السرية، ونظراً إلى أن أعضاء المجموعة الواحدة غالباً ما يكونون متشابهي التوجهات متطابقي الأهداف متناغمي الآراء، فإن مجموعات «واتسآب» الخبرية تنعم بأجواء هادئة عكس «فايسبوك» حيث ازدحام التعددية وصخب المعارضة وعدم انتقاء أنواع المشاكسة.

وعلى رغم عدم وجود إحصاءات أو توافر دراسات، إلا أن المتابع للمشهد الإعلامي الموازي لمساري الإعلام التقليدي بصحفه وقنواته ومواقعه الموثقة والجديد بوسائل تواصله من «فايسبوك» و «تويتر» وغيرهما يلحظ انتعاشاً ورواجاً واضحاً لاستخدام «واتسآب» كمنصة خبرية انتقائية اختيارية شبه سرية.

ووفقاً لتقرير الأخبار الرقمية الصادر أواخر العام الماضي عن «معهد رويترز لدراسة الصحافة»، فإن «واتسآب» أحد الطرق المتنامية والتي تلجأ إليها المجموعات والأفراد في شكل متزايد لاكتشاف الأخبار ومناقشتها.

ووفقاً للتقرير، فإن 50 في المئة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم في ماليزيا قالوا إنهم يستخدمون «واتسآب» لأغراض إخبارية مرة واحدة على الأقل أسبوعياً. وتنخفض النسبة إلى ثلاثة في المئة في الولايات المتحدة الأميركية وخمسة في المئة في بريطانيا. حتى «بي بي سي» العريقة وجدت نفسها في خانة «عدم الثقة» بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكزيت»، إذ قال 43 في المئة فقط من البريطانيين إنهم يثقون في الإعلام التقليدي، ووجه كثيرون سهام الانتقادات لـ «بي بي سي» في تغطيتها التي أثرت في توجهات المشاركين في الاستفتاء.

وعلى رغم استمرار صدارة «فايسبوك» باعتباره منصة خبرية، إلا أن «واتسآب» يسير بسرعة مقترباً من المراكز المتقدمة في لائحة المنصات الخبرية. وبحسب القائمة، يأتي «واتسآب» في المركز الثالث بعد «فايسبوك» و «يوتيوب» ويتبعه الآخرون من «فايسبوك مسنجر» و «إنستغرام» وغيرها. وتشير النتائج إلى أن «فايسبوك» وعلى رغم بقائه في القمة، إلا أنه يشهد انخفاضاً في عدد المعتمدين عليه كمنصة خبرية ونقاشية. وفي المقابل، فإن تشارك الأخبار والدردشة حولها إلى زيادة على منصات الرسائل الخاصة وعلى رأسها «واتسآب». واحتل التطبيق المكانة الثانية كأكثر الخدمات الخبرية والاجتماعية الشائعة التي تقدم الأخبار في 36 دولة.

أحد أبرز أسباب هذا التفوق هو أن الرسائل مشفرة، ما يعني أن المراسلين والمستقبلين فقط هم القادرون على قراءتها، ما يعني أنهم محميون من مراقبة السلطات ومتابعتها. التقرير يشير إلى أن الكثير من المجموعات في دول مثل تركيا تلجأ إلى مناقشة الأخبار السياسية على «واتسآب» ضماناً للحماية من ملاحقة السلطات. من جهة أخرى، يؤكد التقرير ما أشار إليه أرورا من أن «واتسآب» تضمن عدم إزعاج المستخدمين عبر عدم اللجوء إلى الإعلانات.

وعلى رغم إعلان أرورا في القمة العالمية للحكومات ضمن جلسة نقاشية أن هناك تفكيراً نحو تطوير واتسآب ومواكبته لروح العصر وحاجة المستخدمين المتنامية، إلا أن هذه الحاجات تعد تحدياً لأحد أبرز مميزات واتسآب وهي البساطة والمرونة.

يذكر أن بداية «واتسآب» كانت تقتصر على أن يكون بديلاً مجانياً وسريعاً لخدمة الرسائل النصية القصيرة، إلا أنه سرعان ما تم دعمه وتطويره بالرسائل الصوتية والفيديو والمحادثات الصوتية وعبر الفيديو، ولكن ببساطة شديدة. وبساطة الاستخدام وسهولته، إضافة إلى سرية الرسائل جعلته منصة خبرية بالغة الأهمية لدى قطاعات عدة من المستخدمين العرب الهاربين من صخب «فايسبوك» وتناحر أصحاب التوجهات المختلفة على التدوينات التي تكتب في العراء ويمكن الملايين رؤيتها عبر «شير». كما أنها منصة محببة لدى من فقدوا الثقة في الشاشات التلفزيونية التي تحول بعضها إلى أحزاب سياسية وفضل البعض الآخر التسخين والتوليع على حساب المهنية والمعلوماتية، إضافة إلى صرعة «المحلل السياسي» و «الخبير الاستراتيجي» التي أصابت المنطق في مقتل وأطاحت العلوم السياسية والاستراتيجية من مواقعها المميزة لتلتحم بآراء وتحليلات كل من هب ودب. الهاربون من هذا الصخب العربي الإعلامي وجدوا ملاذاً آمناً في «واتسآب» حيث أجواء نقاشية مغلقة بين أفراد يشبهون بعضهم بعضاً.

لكن هذه الأجواء النقاشية المغلقة بين الأصدقاء المختارين بعناية ليست حكراً على العالم العربي. فتحت عنوان «كيف يستخدم المشرعون (نواب البرلمان) البريطانيون حقاً واتسآب؟» تفيد وكالة «بلومبرغ» الأميركية بأن التآمر السياسي في بريطانيا تحول من قلب وستمينستر العميق إلى مجموعات سرية على واتسآب. إنها غرف القرن الـ21 المليئة بالدخان. وعلى رغم من أن المشرعين يؤكدون أن كل ما يتداولونه على مجموعاتهم على «واتسآب» لا يعدو كونه صوراً لقطط وكلاب، وورود وحفلات عشاء في أماكن مملة، إلا أن «واتسآب» الذي يمنح إمكانية النقاش المشفر تشير إلى عكس ذلك. وبحسب «بلومبرغ» فإن هناك مجموعة على واتسآب لمشرعات حزب العمال، وأخرى للنواب المحافظين غير الوزاريين، وأخرى لنواب العمال الوسطيين، وهكذا.

وترى «بلومبرغ» أن «واتسآب» غير وجه السياسة البريطانية. المؤكد أن بعض هذه المجموعات تحوي نقاشات سياسية حقيقية ومعمقة، إضافة إلى تكتيك سري لجلسات البرلمان.

يذكر أن مستخدمي تطبيق «واتسآب» بلغوا أكثر من 1.3 بليون شخص. وقد عقدت «فايسبوك» صفقة كبيرة استحوذت بموجبها على «واتسآب» في مقابل نحو 19 بليون دولار.