الحرب الخفية حول العناصر المعدنيّة النادرة

الحرب الخفية حول العناصر المعدنيّة النادرة

تدور في الوقت الحاضر حرب تجاريّة صناعية خفيّة بين الصين والولايات المتحدة حول العناصر المعدنيّة النادرة على الأرض Rare Earth Elements. ويعود سبب الحرب إلى تحكم الصين بالسوق العالميّة لتلك المواد، إذ إنها تنتج ما يزيد على 80 في المئة من كميّة العناصر المعدنيّة النادرة عالميّاً. وفي الآونة الأخيرة، قرّرت الصين خفض صادراتها من تلك المواد لأسباب مختلفة من بينها تخزين الفائض من الإنتاج لضمان السيطرة المستقبليّة على الأسواق، ما اثار هلعاً لدى كثير من الدول الصناعيّة وعلى رأسها اليابان والولايات المتحدة.

وظهرت تلك المعطيات في كثير من التقارير الصادرة من وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) والكونغرس، إذ طولبت فيها الحكومة الأميركيّة بوضع استراتيجية جديدة تقلّص الاعتماد على استيراد العناصر النادرة من الصين، والعمل على إنتاجها محليّاً.

وتعتمد الصناعات في الولايات المتحدة، خصوصا العسكريّة منها، بصورة أساسيّة على العناصر النادرة المستوردة من الصين، على رغم احتواء التراب الأميركي كميّات كبيرة من تلك الخامات. في المقابل، يلاحظ أن عمليات استخراجها وتعدينها في الولايات المتحدة، تتطلّب استثمارات ماليّة كبيرة، كما تؤدي إلى تلوّث البيئة إلا إذا ابتكرت الولايات المتحدة طرقاً تقنية نظيفة لاستخراج تلك المواد. وعام 2016 استوردت الولايات المتحدة من الصين ما قيمته 120 مليون دولار من العناصر النادرة.

وقبيل ختام عام 2017، وقع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قراراً رئاسيّاً قضى بالحدّ من الاعتماد على العناصر النادرة المستوردة من الصين، وشدّد على البحث عن مصادر محليّة لها، بهدف زيادة إنتاجها أميركيّاً. ويواجه القرار مجموعة من المشكلات تشمل التلوث البيئي الذي يصاحب عادة استخراج العناصر النادرة، إضافة إلى ارتفاع كلفة الانتاج ما يجعل المنتج الأميركي غير قادر على المنافسة مع الأسعار الأرخص التي تعرضها الصين.

وربما كان أحد أسباب خروج الولايات المتحدة من «اتفاق باريس الدولي عن المناخ- 2015» هو التخلّص من قوانين متشدّدة بيئيّاً تحد من استخراج تلك المواد.

وبديهي أن تثور أسئلة حول خصائص تلك المواد، وسبب كل تلك الضجة حولها. هل فقدت الولايات المتحدة سيطرتها على أسواق تلك المواد، بعد أن أحكمت سيطرتها على مصادر النفط والطاقة عالميّاً؟ ما هو دور العالم الإسلامي والدول العربية في الحصول على حصص من أسواق العناصر النادرة التي تقدّر أثمانها بما يفوق كثيراً أثمان النفط أو الغاز الطبيعي.

تظهر العناصر النادرة بوصفها تلك المواد الكيماويّة التي تصنف في «الجدول الدوري» الشهير Periodic Table، الذي يحتوي على جميع العناصر المعروفة في الطبيعة.

وتتميّز بكونها ممتدة على الخانات التي تحتوي المواد ذات الأعداد الذريّة بين 57 و71، إضافة إلى مادتي «سكاندويوم» (العدد الذري 21) و «ليتريوم» (العدد الذري 39) ويبلغ عدد تلك المواد 17 عنصراً.

تتميز تلك المواد بخواص كيماوية وفيزيائية وضوئية مختلفة عن أنواع المعادن الشائعة الاخرى. ولذا، تستخدم في معظم التطبيقات الحديثة بداية من الهاتف المحمول، والبطاريّات الخفيفة، والمغناطيس الصغير الشديد القوة، ووصولاً إلى الطائرات العسكريّة، ومركبات الفضاء.

في أمثلة كثيفة الدلالة، تحتوي «طائرة الشبح» الأميركيّة من طراز «فانتوم- 35» F35 على قرابة 400 كيلوغرام من العناصر المعدنيّة النادرة. وفي معدل متوسّط، تضمّ البارجة البحرية الأميركيّة الحديثة قرابة 2350 كيلوغرام من تلك المواد النادرة. وتنطوي الغواصات الأميركيّة الحديثة على قرابة 4200 كيلوغرام منها كمعدل وسطي.

وتدخل تلك الكميات الكبيرة من العناصر الباهظة الثمن في صناعة مولّدات الطاقة الصغيرة ذات الكفاءة العالية، والأجهزة الإلكترونية والبصرية والليزر والحاسبات الرقميّة الحديثة وغيرها. وعام 2014، بلغت قيمة الأسواق العالميّة للعناصر النادرة قرابة 5 بليون دولار. ويتوقع أن تصل القيمة عينها إلى قرابة 9 بليون دولار عام 2020.

والأرجح أنّ العناصر المعدنيّة النادرة سيكون لها تأثير عميق ومباشر على كثير من التقنيّات السلميّة والعسكريّة، خصوصا في صناعة الإلكترونيات وألواح الطاقة الشمسيّة. كذلك ينتظر أن يؤدّي ارتفاع الطلب على تلك العناصر (خصوصاً عنصر «سترونتيوم») إلى تطوير مواد تتمتع بقدرة فائقة في التوصيل الحراري والكهربائي سويّة.

ويتميّز «سترونتيوم» بكونه عنصراً نادراً وليّناً. ويستعمل نظيره المُشِع الذي يطلق «أشعة بيتا» ذات الطاقة العاليّة، مصدراً لطاقة الكهرباء في المحطات الفضائية، والعوامات البحرية، ومحطات الارصاد الجوية في المناطق النائية، خصوصاً تلك التي لا تحتاج إلى صيانة مستمرة.

ويتطلب استخراج وتنقية العناصر النادرة تقنيّات عالية للتقليل من تلوث البيئة الناتج من طرق التعدين، إضافة إلى تراكم النفايات الناتجة من ذلك. وأوصل ذلك الأمر بعض الدول للاستعانة بخبرات شركات من الصين وأوروبا وأميركا.

تتميز بعض الدول العربية والإسلامية بكونها تحتوي مخزوناً ضخماً من خامات العناصر المعدنيّة النادرة، إذ تمتلك أفغانستان كميّات هائلة من خامات العناصر النادرة وبضمنها عنصر الليثيوم. وفي العام 2010، قدّرت وزارة الدفاع الأميركيّة احتياطي العناصر النادرة في أفغانستان بقرابة تريليون دولار، ما يعني وجود كميّات هائلة منها في ذلك البلد الفقير المبتلى بحروب لم تعد تنقطع.

وفي العام 2017، وقّعت الولايات المتحدة اتفاقاً مع أفغانستان عن تعدين تلك العناصر واستخراجها. والأرجح أن الهدف من ذلك هو استرجاع ما أنفقته الولايات المتحدة على المجهود العسكري في أفغانستان وحفظ النظام فيه على مدار سنوات طويلة. في المقابل، هناك مشكلة تتمثّل في سيطرة حركة «طالبان» على معظم مناطق وجود تلك الخامات المعدنيّ الثمينة، ما يعني أن مفاعيل الاتفاق ربما سرت على المدى الطويل. ويعتقد خبراء أميركيّون أنّ إيران ستصبح إحدى أغنى دول العالم في تجارة الخامات المعدنيّة، وضمنها العناصر النادرة. ويبلغ احتياطي الخامات المعدنيّة في إيران قرابة 7 في المئة من مجموعها عالميّاً، وتفوق قيمتها 700 بليون دولار. بعبارة أخرى، يفوق ذلك الاحتياطي المعدني مداخيل النفط الإيراني بكثير. ويبلغ عدد مناجم خامات المعادن في إيران ما يزيد على 3 آلاف منجم، يملك القطاع الخاص معظمها. وبعد رفع الحصار الاقتصادي عن إيران في العام 2016، وقّعت إيران عقوداً مع شركات صينية وإيطالية وألمانية وفرنسية ودنماركية وغيرها، للتنقيب عن المعادن والعناصر النادرة.

وتحتوي الأراضي الإيرانية على أوكسيدات سبعة عناصر نادرة مهمة (براسيوديميوم وسيريوم ونيوديميوم وليتريوم وفيروتيتانيوم ولانثنوم)، إضافة إلى عناصر نادرة مختلطة. وإضافة إلى خامات الذهب، تمتلك المملكة العربيّة السعوديّة مجموعة من خامات العناصر النادرة، خصوصاً «تانتلوم» و «نايوبيوم» و «ليتريوم» و «زركونيوم». وتبحث المملكة عن سبل لاستخراج واستغلال تلك المواد تجاريّاً. وتشير تقارير جيولوجيّة عدّة إلى وجود كثير من خامات العناصر النادرة المختلطة مع الفوسفات، في العراق والأردن ومصر وتونس والجزائر. وبسبب الطلب العالمي المتزايد على العناصر النادرة في التقنيات الحديثة، ثمة فرصة نادرة للدول العربية والإسلامية لاستخراج وتصدير تلك المواد التي تنافس النفط في أسعارها العالميّة.

ومما يؤهلها في هو رخص الأيدي العاملة في الدول العربية والإسلامية التي هي أقل بكثير مما هو عليه الحال في الدول الصناعية.

وتقود تلك المعطيات إلى القول بأهمية الخامات المعدنيّة في الدول العربية والإسلامية، وأنها تصلح كي تبنى عليها استراتيجية للتصدير تتوافق مع سد الحاجة العالميّة المتزايدة في تلك المواد. وربما نشهد يوماً ما تأسيس منظمة للدول المصدرة للعناصر النادرة، على غرار منظمة الدول المصدرة للنفط.