الإعلام الغربي يساعد «إسرائيل» في الإبادة الجماعية
جوناثان كوك جوناثان كوك

الإعلام الغربي يساعد «إسرائيل» في الإبادة الجماعية

كيف يمكن «للديمقراطيات الليبرالية» أن تحافظ على صورتها الرائدة على مستوى العالم عندما تتواطأ بشكل علني مع جريمة الإبادة الجماعية لشعب؟ وليس بسرعة قبل أن يتاح للعقل الوقت الكافي لاستيعاب ووزن خطورة ومدى الجريمة، ولكن بحركة بطيئة، يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، وشهراً بعد شهر. أيّ نوع من منظومة القيم يمكن أن تسمح لمدة خمسة أشهر بسحق الأطفال تحت الأنقاض، وتفجير الأجساد الهشة، بينما لا تزال تدّعي أنّها إنسانية، ومتسامحة، وساعية إلى السلام؟

ترجمة: قاسيون

هذه المرة، أصبح من الصعب للغاية إخفاء شر الغرب، وعدوُّه صغير للغاية ــ بضعة آلاف من المقاتلين تحت الأرض داخل سجن محاصر منذ 17 عاماً ــ إلى الحدّ الذي يجعل من الصعب تجاهل هذا التباين. من الصعب ابتلاع الأعذار. هل حماس حقاً شريرة وماكرة إلى هذا الحد وتمثل تهديداً كبيراً إلى الحد الذي يجعلها تتطلب مذبحة جماعية؟
للقضاء على مثل هذه الأفكار، كان على النخب الغربية أن تفعل شيئين. أولاً: حاولوا إقناع جماهيرهم بأنّ الأفعال التي يتواطؤون فيها ليست سيئة كما تبدو. ومن ثم فإن الشرّ الذي يرتكبه «العدوّ» استثنائي للغاية وغير معقول لدرجة أنه يبرِّر الردَّ بالمثل. وهذا هو بالضبط الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية خلال الأشهر الخمسة الماضية.
كي نفهم كيف يتم التلاعب، كانت الأشهر الخمسة الماضية واضحة. ما علينا إلا أن ننظر إلى التغطية الإعلامية ــ وخاصة الأكثر ارتباطاً بالقيم الليبرالية المفترضة. كيف تعاملت وسائل الإعلام مع 2.3 مليون فلسطيني في غزة يتضوَّرون جوعاً تدريجياً حتى الموت بسبب الحصار الذي تفرضه «إسرائيل» على المساعدات، وهو العمل الذي يفتقر إلى أي غرض عسكري واضح يتجاوز إلحاق الانتقام الوحشي بالمدنيين الفلسطينيين؟
فيما أصبح يعرفه الفلسطينيون باسم «مذبحة الطحين»، أطلقت «إسرائيل» النار على حشود كبيرة كانت تحاول يائسة الحصول على طرود غذائية من قافلة مساعدات نادرة لإطعام أسرهم التي تعاني من الجوع. وقُتل أكثر من 100 فلسطيني بنيران الأسلحة أو سحقتهم الدبابات «الإسرائيلية» أو صدمتهم الشاحنات أثناء فرارها من مكان الحادث. وأصيب مئات آخرين بجروح خطِرة.
لقد كانت جريمة حرب «إسرائيلية»، إطلاق النار على المدنيين، جاءت على رأس جريمة «إسرائيلية» ضد الإنسانية، تجويع مليوني مدني حتى الموت. بالنسبة لأي صحفي، كان ينبغي أن يكتب العنوان الرئيسي نفسه: «إسرائيل» متهمة بقتل أكثر من 100 شخص بينما تنتظر الحشود مساعدات غزة. أو: «إسرائيل» تطلق النار على حشد المساعدات الغذائية. مئات القتلى والجرحى. لكن هذا كان ليحدد المتهم، لذلك كان لا بد من تحويل التركيز إلى مكان آخر.
وكانت التواءات صحيفة الغارديان مذهلة بشكل خاص: «يقول بايدن إن الوفيات المرتبطة بالمساعدات الغذائية في غزة تعقّد محادثات وقف إطلاق النار». اختفت المذبحة التي ارتكبتها «إسرائيل» باعتبارها «وفيات غامضة مرتبطة بالمساعدات الغذائية»، والتي أصبحت بدورها ثانوية بالنسبة لتركيز الغارديان على التداعيات الدبلوماسية.
العنوان الرئيسي في تحليل هيئة الإذاعة البريطانية بي. بي. سي لجريمة الحرب ذاتها - والذي أعيدت صياغته الآن باعتباره «مأساة» لا مُرتكِبَ لها، كررته نيويورك تايمز: «مأساة قافلة المساعدات تظهر الخوف من المجاعة التي تطارد غزة». وكانت المناورة المفضلة الأخرى، التي ابتكرتها صحيفة الغارديان مرة أخرى، هي إخفاء المسؤولية عن جريمة حرب واضحة المعالم. وجاء في عنوان الصفحة الأولى: «أكثر من 100 فلسطيني يموتون في الفوضى المحيطة بقافلة المساعدات لغزة».

التشويه الإعلامي

لكن حتى هذه الإخفاقات كانت أفضل من الاهتمام الإعلامي المشوّه. فقد ساعدت وسائل الإعلام واشنطن باقتدار في انحرافها عن الجريمة الجماعية ضد الإنسانية المتمثلة في قيام «إسرائيل» بفرض مجاعة على غزة، والتي تفاقمت بسبب قيام الولايات المتحدة وأوروبا بوقف تمويل الأونروا، وهي الوكالة الوحيدة التي يمكنها التخفيف من حدة تلك المجاعة.
انضم المذيعون البريطانيون والأمريكيون بحماس إلى الطواقم الجوية بينما حلّقت طائراتهم العسكرية ذات البطون الكبيرة فوق شواطئ غزة، بتكلفة كبيرة، لإسقاط وجبات جاهزة لمرة واحدة لعدد قليل من الفلسطينيين الجائعين أدناها. ونظراً للحاجة إلى مئات الشاحنات المحملة بالمساعدات يومياً لمنع غزة من الانزلاق إلى مستويات أعمق من المجاعة فقط، فإن إسقاط الوجبات لم يكن أكثر من مجرد مسرحية. وفي أحسن الأحوال، قام كل إسقاطٍ بإيصال حمولة شاحنة واحدة من المساعدات، إذا لم ينتهِ الأمر بالسقوط في البحر، أو قتل الفلسطينيين الذين كان من المفترض أن يستفيدوا منه.
لم تكن العملية تستحق أكثر من السخرية. وبدلاً من ذلك، فإن الصور الدرامية لطيارين أبطال، والتي تخللتها تعبيرات عن القلق بشأن الصعوبات التي تواجه معالجة «الأزمة الإنسانية» في غزة. وفي مقال نموذجي لاهث بعنوان «كيف يخطط الجيش الأمريكي لبناء رصيف وإدخال الغذاء إلى غزة»، تجاهلت بي. بي. سي الصورة الكبيرة لتتعمق بحماس في تفاصيل «التحديات اللوجستية» و«التحديات الأمنية» الضخمة التي تواجه مشروع بايدن.
ودعماً لهذه التكتيكات التضليلية، اضطرت وسائل الإعلام أيضاً إلى تسليط الضوء مع كلّ تغطية إعلامية على ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول - والحاجة إلى إدانة الفلسطينيين عند كل منعطف، وقد تطلب ذلك جرعة كبيرة على نحو غير عادي من السذاجة من جانب الصحفيين الذين عادة ما يظهرون على أنهم متشككون عنيدون.
وقد تجاهلت وسائل الإعلام الغربية ما أظهرته شهادات القادة والمسؤولين «الإسرائيليين» من أنّ القوات «الإسرائيلية»، التي فوجئت بهجوم حماس، قامت بإطلاق قذائف الدبابات وصواريخ هيلفاير بعنف، الأمر الذي أدى إلى حرق مقاتلي حماس وأسراهم «الإسرائيليين» بشكل عشوائي. إنّ السيارات المحترقة المتراكمة كدليل بصري على سادية حماس هي في الواقع دليل على عدم كفاءة «إسرائيل» في أحسن الأحوال، وهمجيتها في حقيقتها.
وفي حين تحاول وسائل الإعلام افتعال عمليات اغتصاب ممنهج من قبل مقاتلي حماس، تتجاهل الكثير من الدلائل التي تشير إلى أن الجنود «الإسرائيليين» يستخدمون بانتظام الاغتصاب والعنف الجنسي ضد الفلسطينيين، كما أكّد تقرير الأمم المتحدة الصادر في شباط الذي تحدّث عن استخدام جنود ومسؤولين «إسرائيليين» العنف الجنسي ضد النساء والفتيات الفلسطينيات منذ 7 أكتوبر، الذي لم يجد طريقه إلى أيّ من وسائل الإعلام التي تهاجم حماس بناء على أدلّة ظهر بشكل قاطع أنّ صحيفة «التايمز» اختلقتها، لدرجة قيام عائلة الضحية المزعومة بتكذيب خبرها.
إذا كان هناك أي شيء يمكن اكتشافه بشكل منهجي، فهو الفشل في تغطية وسائل الإعلام الغربية للإبادة الجماعية التي تتكشف في غزة. كشف تحليل حسابي لتقارير صحيفة نيويورك تايمز عن استمرارها في التركيز بشكل كبير على ما تقوله المصادر «الإسرائيلية». وكانت الصحيفة تستشهد بتصريحات «إسرائيليين» وأمريكيين بشكل أكثر انتظاماً من أقوال الفلسطينيين، وعندما تمت الإشارة إلى الفلسطينيين كانت الإشارة دائماً بصيغة المبني للمجهول. وفي بريطانيا، قام «مركز مراقبة الإعلام» بتحليل ما يقرب من 177 ألف مقطع من برامج تلفزيونية، ووجد أن وجهات النظر «الإسرائيلية» كانت معتمَدة أكثر بثلاث مرّات من وجهات النظر الفلسطينية.
ووجدت دراسة مماثلة أجرتها مجموعة «غلاسكو» الإعلامية أن الصحفيين استخدموا بانتظام لغة إدانة لقتل «الإسرائيليين»، ولكن لم يستخدموها مطلقاً عندما كان الفلسطينيون يُقتَلون على يد «إسرائيل». فهذه «المذابح» «والفظائع» «والمجازر» لا تُرتكب برأيهم إلّا ضدّ «الإسرائيليين»، وليس ضد «الفلسطينيين».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1168
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 12:22