كوريا الجنوبية: نمر تحوّل إلى قط وقد يصبح فأراً
أوديت الحسين أوديت الحسين

كوريا الجنوبية: نمر تحوّل إلى قط وقد يصبح فأراً

تاريخ كوريا الجنوبية الحديث الاقتصادي والاجتماعي مذهل. منذ نهاية الحرب الكورية بدأت بالتحوّل إلى مركز صناعي قوي، لتحقق قفزات اقتصادية تستحق الدراسة، خاصة في قطاعات التكنولوجيا التي كانت مهيمنة في وقت ما، وبعضها لا يزال حتّى هذا الوقت «لنتذكر الشركات المعروفة مثل هيونداي وإل.جي وسامسونغ كأمثلة صارخة». لكنّ كوريا الجنوبية التي كانت نمراً ذا مخالب تفتّت الصعاب قبل أكثر من عقدين، هي اليوم مجرّد قطّ يعاني من مشكلات في الناتج المحلي الإجمالي، وربّما هو على وشك فقدان موقعه كقطّ أيضاً في السنوات القادمة.

تعيش كوريا الجنوبية اليوم أزمة، فقبل وقت طويل من ابتلاء العالم بكوفيد-19 والتضخّم، كان الاقتصاد الكوري الجنوبي في حالة من الفوضى الفعلية، الأمر الذي أدّى لتعمّق الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية. كان الفيلم الذي حصل على شهرة واسعة «الطفيلي» - بغض النظر عن كونه فيلماً جيداً أم سيئاً من الناحية الفنية – قادراً على إظهار مدى الهوّة الواسعة بين الفقراء والأثرياء في البلاد، والتي تعدّ واحدة من الأكثر عمقاً في البلدان المتقدمة صناعياً. يزيد على ذلك أنّ كوريا الجنوبية هي واحدة من أقلّ البلدان في معدلات الإنجاب في العالم بأسره «معدل الخصوية 0,78، أو 6,769 ولادة لكل 1000 شخص». ولا يتوقّف الأمر عند هذا الحد، فالصين والولايات المتحدة هما الشريكات التجاريان الأكبر لكوريا الجنوبية، والخلاف المتصاعد بين القوتين يجعل من كوريا الجنوبية في خطر خسارة المزيد بسبب هذا الصراع.
يرى بعض الخبراء، مثل أو.جاي جون، البروفسور في جامعتي هارفارد وهلسنكي، بأنّ كوريا الجنوبية ليست قادرة على تغيير النموذج الهيكلي الذي أوصلها إلى هذه المشكلات في الأساس، ولهذا يتنبؤون بأنّها ستشهد نوعاً من «التشبّة بأوروبا Europeanization» أو الأسوأ: «التشبّه باليابان Japaneseization»، حيث ستبقى تعاني من مستوى ديون مرتفع، وسكّان معمّرين، وركود اقتصادي طويل الأمد. ويضيف أنّ التحديات الحالية يدركها الموجودون في الساحة السياسية، وفقط توافق على إصلاح شامل للهيكل الكوري الجنوبي يمكنه أن ينقذ البلاد. لكنّ الأطراف المعنيّة في كوريا الجنوبية فقدت قدرتها على التوصل إلى توافق، ما يجعل من المستحيل على الدائرة السياسية تقديم أيّ حلول أو سياسات يمكنها أن تتعامل بفاعلية مع التحديات المستقبلية.
كانت كوريا الجنوبية «نمراً آسيوياً» يوماً ما، حيث تمتّعت بنموّ ناتج محلي إجمالي قوي. لكنّ هذه الحقبة المزدهرة ذوت منذ عقدين. انزلق معدّل نمو الاقتصاد الكوري الجنوبي في بداية الألفية إلى أقلّ من 5٪، وتقلّص أكثر حتّى بعد الأزمة المالية العالمية 2008. لم يحقق الاقتصاد الكوري هذا العام سوى نسبة 1,4٪، ما يجعله ثاني أبطأ نمو للبلاد منذ عام 2009. منذ الأعوام التي تلت الأزمة المالية بدأت الصيحات القلقة تتعالى، متحدثة بشكل واضح عن الصادرات والاستثمارات التي لعبت لعقود دور المحرّك لنمو الاقتصاد الكوري «لتفاصيل أكثر: الدين والنمو 2 | كوريا الجنوبية»، حيث علّق الكثيرون آمالهم على قدرتها على انتشال الاقتصاد ودفعه للتعافي. لكنّ مساهمة هذين العاملين في «المخرجات الإجمالية» ضعيف. لكن ما السبب في ذلك؟
يحدث هذا ببساطة لأنّ القوى التي دفعت الصادرات الكورية الجنوبية إلى الأمام ذات مرّة، تفقد زخمها اليوم بشكل متسارع. فمن جهة هناك أسباب عالمية، الأزمة المالية، ثمّ وباء كوفيد-19، ثمّ التراجع عن قواعد العولمة في السنوات الأخيرة، ما تسبب بركود عالمي. من جهة أخرى، الركود الخاص بالهيكل الصناعي في كوريا الجنوبية. يعتمد اقتصاد كوريا الجنوبية بشكل كبير على الصادارت الصناعية من مجموعة قليلة جداً من الصناعات، لهذا عندما تصل هذه الصناعات إلى ذروتها أو تتأثر بعوامل خارجية، يصبح النمو القائم عليها أضعف فأضعف، ما يؤدي إلى معاناة الاقتصاد ككل بشدة.
الركود الكوري الجنوبي مرتبط أيضاً بشكل كبير بالصين. صعود الصين كقّوة تكنولوجيّة عالمية شدّد ضغوط المنافسة في كوريا الجنوبية. علاوة على ذلك فالصناعات الكورية في مستحضرات التجميل والهواتف الذكية والسيارات ومنتجات تكنولوجيا المعلومات، وهي التي كانت ذات يوم شديدة الشعبية بين المستهلكين الصينيين، فقدت جزءاً هائلاً من حصتها السوقية في الصين لأسباب متعددة، منها التباطؤ الاقتصادي في الصين، وقيام الحكومة الكورية الجنوبية بتبني سياسات محابية للأمريكيين ومناهضة للصين، مثل نشر أنظمة مضادات الصواريخ الأمريكية على أراضيها في 2017، الأمر الذي جعل الصين تتراجع عن سياسات مثل الرسوم الجمركية الصفرية على المنتجات الكورية الجنوبية، وكذلك انخفاض عدد السيّاح الصينيين إلى كوريا بشكل كبير وتدريجي، ما عنى زيادة سوء وضع الاقتصاد الكوري.
من الأسباب الكبيرة لتراجع الاقتصاد الكوري أيضاً، التباطؤ طويل الأمد في نمو الإنتاجية العمالية، ومردّه بشكل كبير إلى التباطؤ في معدل تراكم رأس المال والاستثمار في إنتاجية العمّال «تخصيص الموارد الاقتصادية ودعم البحث التكنولوجي» الذي انخفض بشكل حاد. بمقارنتها بدول «منظمة التعاون والتنمية» الأخرى، وببقيّة «النمو الآسيوية»، إنتاجية العمالة في كوريا الجنوبية ومجمل عناصر الإنتاجية أكثر انخفاضاً بشكل كبير. فإذا ما بنينا رأينا على الإحصاءات التي أوردتها منظمة التعاون نفسها، وأخذنا معياراً: «ناتج قوة عمل واحدة لكل ساعة عمل واحدة»، فقد كانت الإنتاجية الكورية في 2019 نصف الإنتاجية في الولايات المتحدة، وكانت مجمل عناصر الإنتاجية تشكّل فقط 37٪ من الموجودة في الولايات المتحدة. لم تتعافَ كوريا الجنوبية منذ 2019 ولا تزال هذه الهوة تفصل بينها وبين بقية المتقدمين صناعياً. وكما يشير الباحث «ليو زن» من جامعة بكين، فبما أنّ كوريا الجنوبية لديها بالفعل مستويات مرتفعة من رأس المال البشري والمادي، فلن يمكن زيادة الإنتاجية لديها ببساطة عبر زيادة رأس المال البشري والحسي. ويضيف: «ولّى زمن مستويات الاستثمار ونمو الصادرات المجيد عندما كانت العولمة في ذروتها».
سبب انخفاض الإنتاجية هو مزيج من هيكل الصناعة غير القادر على مواكبة التطورات، والإجراءات القاصرة عن إدماج وتنمية الشباب في الحياة الاقتصادية. وفقاً لوكالة الإحصاء الكورية الوطنية، وصلت نسبة الموظفين غير الرسميين بعقود مؤقتة في عام 2022 إلى 37.5٪ من إجمالي القوى العاملة. وفي شهر آذار الماضي وصل عدد الكوريين الجنوبيين «غير النشطين اقتصادياً»، أي الذين ليس لديهم عمل ولا يبحثون عن عمل، 497 ألف كوري ممّن تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً. كما تظهر مشكلة تنمية الرأسمال البشري في الإنجازات التكنولوجية والعلمية، فرغم أنّ معدّل التعليم العالي في كوريا الجنوبية بين السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 سنة هو الأعلى في العالم، لم يتمكن الطلاب الكوريون الجنوبيون من تحقيق شيء يذكر في مجال العلوم والتكنولوجيا.
يحاول بعض الاقتصاديين ذوي الهوى الغربي أن يشيروا إلى أنّ قطاع الخدمات الكوري يمكنه أن يتولى مسؤولية رفع النمو الاقتصادي، ولكنّ هذه الآراء مجرّد امتداد لصيغ التدمير السابقة نفسها. الحقيقة الوحيدة التي يجب معرفتها: القدرات التصديرية الصناعية في كوريا الجنوبية كانت قادرة على لعب دور القناع الذي يخفي المشكلات الاجتماعية والانقسامات السياسية، ولهذا فمن يريد أن يدفع الأمور قدماً بدل انتظار تعمّق الكارثة والركود، عليه أن يفكّر في إعادة توزيع الثروة في كوريا الجنوبية ليسمح للهياكل الجديدة وأصحاب فكر التجديد الاقتصادي بالتغلّب على هياكل التشايبول «للمزيد عن: التشايبول»

معلومات إضافية

العدد رقم:
1125