الدين والنمو 2 | كوريا الجنوبية
أندرو فيشر أندرو فيشر

الدين والنمو 2 | كوريا الجنوبية

تعريب وإعداد: عروة درويش

تدلنا حالة كوريا الجنوبية بشكل واضح على الدور الحاسم الذي لعبه الدين (والمساعدات) في تمويل العجز العميق في تجارة السلع الناجم عن التصنيع الحثيث، وهو الذي عزز قوّة الاقتصاد ضدّ الضعف المالي المرتبط فيه. وكما يظهر في الشكل رقم «1»، فقد أدارت البلاد بشكل مستمر عجزاً تجارياً كبيراً في البضائع (السلع) منذ بداية حقبة ما بعد الحرب وحتّى منتصف الثمانينيات. مع أخذنا بالاعتبار المظهر البارز لتقلّب الأسعار الناجم عن الانخفاضات المتتالية في القيمة. فالعجز التجاري كان ثابتاً في نطاق 8 إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي منذ الخمسينيات وحتّى 1971 حين كان ثابتاً عند 10.7%. ثمّ وصل إلى 10.3% في عام 1974 و9.7% في 1980. وتهاوى العجز إلى أعمق نقطة له بشكل ملحوظ في 1968 ليصل إلى 14% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك في خضم انطلاق البلاد إلى قصّة نجاح تصديري هائل. وليس هناك أيّ دليل على أنّ التحول المزعوم نحو الاستراتيجية الموجهة للتصدير في أوائل الستينيات قد أدّى إلى تحسين هذه العجوزات العميقة. وقد تحققت التحسنات المتقلبة على العجز في السبعينيات، والمعاكسة لصدمات ارتفاع أسعار النفط، من خلال برنامجين للاستقرار: واحد في عام 1971 وآخر في عام 1974، وذلك رغم أن تأثيراتهما لم تدم طويلاً. في الواقع، إنّ الصادرات الصناعية خلال الستينيات والتحوّل إلى صناعات أثقل وذات تركيز رأسمالي أكبر في السبعينيات كانت موجهة نحو الاستيراد وليس التصدير، وذلك كما سيلاحظ لاحقاً عند المقارنة بالبرازيل.

الشكل «1»

من وجهة نظر مقارنة، كانت عجوزات تجارة البضائع هذه أكبر بكثير من بلدان أمريكا اللاتينية حتّى عشية أزمة الديون عام 1982. من الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات، تمّ تمويل معظم هذا العجز عبر المنح (المساعدات). كما عوّض فائض تجارة الخدمات العجز السلعي خلال الثمانينيات، وذلك على عكس معظم الاقتصادات النامية حيث الخدمات في حالة عجز. وكما يمكننا الملاحظة من البيانات ما بين 1961 و1972، كان هذا الأمر كليّة يعود للخدمات التي تقدمها الحكومة، والتي تجلّت بمعظمها في خدمة الجيش الأمريكي، سواء في كوريا الجنوبية أو في مغامرات عديدة في جنوب-شرق آسيا. توضّح لنا المساعدات والخدمات الحكومية الأهمية الجيوسياسية لكوريا الجنوبية (وتايوان كذلك) بالنسبة للولايات المتحدة (وأيضاً اليابان).

 حققت البلاد فائضاً في حساب تجارة البضائع للمرّة الأولى في عام 1986. وكان مردّ ذلك إلى تباطؤ نمو كلا الصادرات والواردات بين عامي 1981 و1985، والذي تسببت به أزمة الديون الدولية وبرنامج الاستقرار الذي تمّ تنفيذه في ذلك الوقت. ويؤكد سقوط الاقتصاد في الركود وجهة النظر القائلة بارتباط الفائض عموماً بالتقشف والتعديل الهيكلي. كان الارتفاع الضخم في فائض التجارة السلعية من عام 1986 إلى 1989 حينها مرتبطاً بجهود سداد الدين المتراكم من أجل مواجهة الأزمة (كما هو مبين في الشكل 2). ثمّ عادت البلاد إلى نمط العجز في تجارة البضائع والحساب الجاري (وإن كانت بمستويات أدنى)، ولم تصبح الفوائض سمة معتادة في الاقتصاد إلّا بعد الأزمة الشرق-آسيوية عام 1997-1998.

الشكل «2»

توفّر بيانات الحساب التمويلية صورة أكثر اكتمالاً للظروف المالية السخيّة التي كانت تدعم تجربة كوريا الجنوبية، لا سيما وأنّ الاقتصاد قد أصبح أكثر ضعفاً في السبعينيات. ويظهر هذا في الشكل 2، وذلك بالاعتماد على بيانات صندوق النقد الدولي من عام 1976 وما تلاه.

يمكن استخلاص نتيجتين رئيسيتين من هذه البيانات، أحدها عن الدور الهام للديون وآخر عن عدم أهمية الاستثمار الأجنبي المباشر حتّى الثمانينيات. فمع تناقص المساعدات منذ منتصف الستينيات فصاعداً، تمّ استبدالها بالدين كوسيلة رئيسيّة لتمويل العجز التجاري. يمكن ملاحظة هذا الاتجاه في الزيادة الكبيرة في الاستثمارات «الأخرى» (مثل القروض المصرفية) في النصف الثاني من السبعينيات، إلى جانب أنّه في عام 1977 عندما كان الحساب الجاري متوازناً لفترة وجيزة، كان الاقتراض الخارجي هو الاستراتيجية الحكومية الصريحة لتمويل العجز في الحساب الجاري وتمّ تسهيله عبر الحسابات التمويلية المغلقة نسبياً وحقيقة أنّ الاستثمارات من المستويات العليا في هذه الفترة كانت تقودها مؤسسات القطاع العام. تشرح حالة الوساطة المراسلات الوثيقة بين الاستثمارات الأخرى وكامل الحساب التمويلي.

إنّ القصّة النمطية التي يتم سوقها هي أنّ دين كوريا الجنوبية كان رسمياً بشكل كبير، ولهذا كان أكثر استقراراً من الدين النموذجي الذي تمّ ترتيبه على دول أمريكا الجنوبية. يقدم الشكل 3 بيانات من «BoK 1995» تقسّم تدفق رأس المال السنوي الأجنبي إلى منح وقروض عامّة وتجارية واستثمار أجنبي مباشر. يتبين لدينا أنّ التدفقات (العامة) الرسمية كانت تهيمن على الدين. لكن في وقت مبكر من عام 1966، عندما بدأ الدين الاسمي يتزايد بشكل سريع، كانت كتلته في الواقع تجارية. إنّ حصّة الدين الرسمي تتراوح بالكاد ما بين 30% و50% من كامل الدين الخارجي في السبعينيات. وقد نشر فريدن في 1981 بشكل مشابه بأنّ 45% من الدين الخارجي العام الكلي لكوريا الجنوبية كان رسمياً في عام 1978 (رغم أنّ بياناته لا تتوافق مع بيانات BoK). ورغم أنّ هذه الحصة هي أعلى منها في المكسيك (20%) أو البرازيل (31%)، فالفروق ليست كافية لشرح الفرق الكبير فيما عانوا منه أثناء أزمة الدين اللاحقة. وبكل تأكيد، وبشكل متصل بالناتج المحلي الإجمالي، فإنّ عبء الدين العام الخارجي لكوريا الجنوبية عام 1978 كان أكثر من ضعف مثيله في البرازيل أو المكسيك.

الشكل «3»

بدلاً من ذلك، فإنّ ما يميّز حالة كوريا الجنوبية هو أنّ كمية وحصّة القروض الخارجية الرسمية/العامّة قد ارتفعت في الفترة التي سبقت أزمة الديون عام 1982. كما يبدو أنّ هذه الزيادة قد تناقضت مع كمية الإقراض الخارجي الخاص، وذلك على عكس الانهيار الذي حصل بالإقراض الخاص الذي سرّع حدوث أزمة أمريكا اللاتينية. وكما هو موضّح في الشكل 3، تضاعف الإقراض العام الاسمي بين عامي 1978 و1982. فقد وصل إلى 67% من كامل الإقراض في 1982 أو 65% من كامل تدفقات رأس المال. وبحلول 1985، بقي عند 52% و48% على التوالي. وتنعكس تأثيرات هذا أيضاً في (صافي) حساب الاستثمارات الأخرى الذي ظهر في الشكل 2، والذي شكّل فائضاً بنسبة 5.9% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1982 وبقي إيجابياً حتّى 1985.

لم يجنّب الإقراض الرسمي البلاد أزمة السيولة وحسب، بل خفف أيضاً من تأثير الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة الأمريكية منذ أواخر السبعينيات فصاعداً، نظراً لأسعار الفائدة الأقل مرونة على القروض الرسمية طويلة الأجل. يتضح ذلك في الشكل 1 من حقيقة أنّ العجز في حساب الدخل قد انخفض بشكل طفيف إلى ما دون 2% من الناتج المحلي الإجمالي في عامي 1985 و1986، وذلك على النقيض للعجز الساحق في حساب الدخل في البرازيل والذي وصل إلى 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1984. كان هذا الأمر بالنسبة لكوريا الجنوبية هاماً بشكل خاص على ضوء عجزها التجاري العميق في البضائع، والذي بقي عند 6.3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1982، فضلاً عن درجة كبيرة من هروب رأس المال، وهو الذي انعكس فيه عجز الأخطاء والإهمال إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي في 1982 (وصلت من جديد إلى 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1998). بكلمات أخرى: يعكس كلا العرض وبنية الدين الخارجي للديون الظروف التفضيلية الممنوحة لكوريا الجنوبية والتي لعبت بوضوح دوراً حاسماً في تعزيز مرونة البلاد أمام الأزمة المالية طوال تلك الأعوام.

بعد ارتفاع فائض الحساب الجاري من 1986 إلى 1989 والذي ارتبط بسداد الديون، انهارت الصلات بين الدين وكامل ميزان الحساب التمويلي والحساب الجاري. وقد تميّز هذا التمزق لأول مرّة بفترة قصيرة من التراكم ومن ثمّ بزيادة بروز تدفقات الحافظة النقدية وغيرها في التسعينيات. لقد أصبح تراكم الاحتياطي هو المحدد الرئيسي للحساب المالي فقط بعد الأزمة الشرق-آسيوية (إلى جانب الفوائض في الحساب الجاري كما رأينا).

أمّا البعد الثاني الهام من الشكل 2 هو أنّ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بقي هامشياً للغاية حتّى التسعينيات. واعتماداً على بيانات متعددة فإنّ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر لم يكن موجوداً قبل عام 1966. وبعد ذلك بقي يشكّل أقلّ بكثير من 0.5% من الناتج المحلي الإجمالي حتّى التسعينيات، باستثناء بضعة أعوام استثنائية (فقد وصل إلى 0.6% في عام 1971)، وكان في السالب في الثمانينيات. وتمثل هذه التدفقات الصافية كامل تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى كوريا الجنوبية حتّى ذلك الوقت تبعاً لعدم وجود تدفقات استثمار أجنبي مباشر حتّى الثمانينيات. يؤكد هذا النتيجة الانسيابية التي وصل إليها أمسدن في 1989 بأنّ التحوّل للتصنيع في كوريا الجنوبية قد حدث بالاعتماد بشكل شبه حصري بالاعتماد على الملكية الوطنية، وأنّ الاستراتيجية الصناعية اعتمدت على «الاستيراد الهائل للتراخيص والمساعدات الأجنبية» التي تمّ تمويلها بالدين كوسيلة لتحقيق الاستقلال التكنولوجي وتجنب السيطرة الأجنبية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أنماط الاستحواذ على التكنولوجيا هذه تنعكس بالعجز في حساب الخدمات الخاصة وليس عبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة في الحسابات المالية.

باختصار: تكشف الحسابات الخارجية لكوريا الجنوبية عن العديد من السمات التي لا تفسر بالضرورة النجاح الصناعي للبلاد، ولكنّ هذا يبرز بكل تأكيد كيف تمّ تخفيف بعض القيود الحاسمة على هذا النجاح الصناعي للبلاد على مدى عدّة عقود من التحوّل المكثف والضعيف. أولاً تمّت إدارة العجز التجاري البضاعي، ثانياً تمّ الحصول على التمويل عبر المساعدات ومن ثمّ عبر الديون، وكان الجزء الرسمي منها هو الأكبر وذلك أثناء مفترق طرق خلال الأزمة المالية المنهجية في أوائل الثمانينيات. وأخيراً تمّ كلّ ذلك دون الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر.