إجراءات ما قبل الأزمة.. هل سرّعت بانفجارها؟

صندوق المعونة الاجتماعية، المراسيم التشريعية، قرارات التوظيف، المئة مليار لجر مياه دجلة، العفو العام «نسبياً»، تخفيض مدة الخدمة الإلزامية..

 

صدرت المراسيم والقرارات السابقة كإجراءات سريعة، وإفرازات أولى ومباشرة لتعامل الجهات الحاكمة في سورية مع التوترات والإفرازات المتوقعة في الساحة الشعبية السورية كاستجابة للتناقضات الأساسية والثانوية والمفاعلات العميقة التي يختزنها هذا النسيج، والتي أصبحت كلها فعالة في ظل التوتر الحالي، لإشعال جبهة داخلية، إذا ما اشتعلت قد تنقل الواقع السوري إلى حالة من التشتت والصراع، وتخلق ساحات متعددة لن ترفع شعاراً واحداً، وستكون الفوضى سيدة الموقف إلى أن تطفو المصالح الحقيقية على السطح وتجمع الفئات الوطنية والجماهير معاً.

قد تكون هذه ملامح الأزمة القادمة، لكن ما هي الملامح السابقة؟ وهل الانفجار هو وليد اللحظة؟ وهل استطاع النظام في سورية رؤية هذه الملامح، وبالتالي التعامل معها؟

إن الفئات الحاكمة في سورية لم تستطع، أو لم ترد تلمس المشاكل الحقيقية، وبالتالي لم تلمس الحلول الحقيقية التي تشكل الإطار الجامع الذي يلامس هموم كافة الفئات الشعبية ويقطع الطريق على كل الفوالق الموجودة والمفتعلة والمستخدمة للتصعيد.

وينعكس هذا بشكل أساسي على التعامل مع الأزمة، والإجراءات المتبعة لتفريغ حالة الاحتقان الجارية، حيث تركزت هذه الاجراءات بأغلبها في الجوانب الاقتصادية و«الديمقراطية»، ولكنها أتت سطحية وشديدة البعد عن حاجات المرحلة، بل ربما أتت مستفزة وتعكس حالة من اللامبالاة.

المراسيم التشريعية رقم 70، 23، 24

في تصريح لوزير المالية حول المراسيم: «إن المراسيم التشريعية رقم 23 و24 و70 التي أصدرها السيد الرئيس بشار الأسد تهدف إلى تخفيض رسم الإنفاق الاستهلاكي ورسم تراخيص طلبات الاستيراد ورسم الطابع والرهن والتعرفة الجمركية المتصلة مباشرة بالسلع الأساسية والاستهلاكية وكذلك على القروض والتامين لصالح المواطنين».

بما يتعلق بالمرسوم رقم 70، القاضي بتخفيض نسب الرسوم الجمركية على مواد عديدة: (الحليب، البن، الشاي، الأرز، الموز). فإن هذا الإجراء هدف إلى تخفيض أسعار هذه المواد على المستهلك النهائي، إلا أن هذا الهدف يمر تحقيقه عبر المستورد، وتاجر الجملة وتاجر التجزئة. حيث تصب التخفيضات أي الاستفادة المباشرة لدى المستوردين، ويتوقع أن تنعكس هذه التخفيضات بشكل غير مباشرعلى المواطن بالاعتماد على تخفيضات تجار الجملة والتجزئة.

وهنا تكمن هشاشة هذه التخفيضات، وحتى انحيازها، فمن غير الممكن أن يصدر المرسوم محققاً هامشاً للكسب والتنفع للتجار، ومعتمداً عليهم في تحقيق انعكاسات اجتماعية إيجابية، في ظل حالة من الاحتقان تحتاج إلى إجراءات جدية وجذرية.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى مرسوم خفض الإنفاق الاستهلاكي للزيوت والسمون النباتية والحيوانية والبن والسكر بأنواعه المختلفة، وتخفيض رسم ترخيص طلبات الاستيراد.

أما المرسوم رقم 24 فيقضى بتخفيض نسبة رسم التأمين الاختياري والإجباري على الدين والرهون بكافة أنواعها ونسبة رسم أسهم الشركات المساهمة والشركات القابضة ورسم وثيقة ترخيص الشركات محدودة المسؤولية ورسم أقساط وبوالص التأمين على الحياة والادخار وأقساط وبوالص التأمين الأخرى.. كما يقضي بإعفاء عقود القروض المتناهية الصغر وعقود وبوالص التأمين الصحي للعاملين في الدولة والمتقاعدين منها من رسم الطابع.

والحقيقة أن المرسوم السابق يأتي كاستمرارية للتسهيلات والخدمات المقدمة إلى أصحاب الأموال والشركات. ويضاف إليه ما ورد في المادة الرابعة من المرسوم 70 الذي يعفي من ضريبة الدخل على فوائد وعوائد الأوراق المالية الحكومية مهما كانت صفة حاملها.

بعملية تقييم سريعة لهذا الإجراء الأول يتبين أن هذه التشريعات تعكس خللاً في قدرة ورغبة النظام بالتعامل مع الأزمة، حيث صدرت الإجراءات سريعة على شكل مراسيم متجاوزة مجلس الشعب، والهيئات المختلفة، والأهم هو الاستمرار بالاعتماد على نهج ليبرالي يقوم على إفادة أصحاب المال والشركات بشكل مباشر، والاعتماد على نشاطهم الاقتصادي في زيادة الدخول وزيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار. هذا النهج الذي خبرنا مع تجربتنا القصيرة به قدرته الخارقة على إنتاج الفقر وتوسيعه، مقابل إنتاج الثروات وتضييقها. أي أن المرسوم يمثل خطوة واضحة على طريق الليبرالية في الوقت الذي يتطلب الوضع الراهن القطع السريع معها ومع المستفيدين منها.

والسؤال: لماذا لم تفرز المرحلة الحالية اجراءات توافقية على الأقل؟ لماذا لم تستهدف الإجراءات المواطنين مباشرة؟! لا يبرر هذا إلا الخلل في موازين القوى داخل النظام، ولايوضح إلا عدم القدرة على ترجيح كفة الفقراء حتى في أشد الأوقات التي تتعرض فيها الوحدة الوطنية للخطر، ويعكس عدم فهم أسس الوحدة الوطنية وهو الاقتصاد الوطني، الذي يشكل الأساس لخلق قرار سياسي مستقل وأنظمة متينة محمية بمصالح شعوبها. خسر الاقتصاد السوري حتى قبل المرحلة الليبرالية كل الأسس الشعبية، وتحول إلى جسد منهك، يأكله الفساد واللامنهجية، ويتناهبه اقتسام الحصص، حتى وصل إلى المرحلة الحالية، حيث راحت تحكمه مصالح قوى الفساد والمال، وكان الإعلان عن السير الواضح والصريح على النهج الليبرالي أوضح دليل على رجوح الكفة لمصلحة أصحاب الأرباح والريع، ولصالح تشريع الأموال المكدسة لناهبي ثروات الشعب السوري والمستفيدين من الثغرات المتعددة في البنية السابقة. ولم تظهر سوى ممانعة بطيئة من فئات متعددة بعضها وطني وبعضها منتفع. إلا أن العامل الحاسم في ممانعة هذا النهج هو البنية السابقة التي ربطت الجماهير بأطر النظام الاقتصادية والسياسية، وبالمقابل ربطته بها، وهو ما يفسر عدم قدرة قوى المال على تحقيق قفزات سريعة واعتمادها على تكتيك طويل المدى. وبالمحصلة نجحت في خلخلة بنية الاقتصاد السوري وتأريض أهم قواعد شعبيته وهو ملكية الدولة والقطاع العام، ولم تستطع الممانعة المتواضعة أن تخرق قانون من يملك يحكم.

لذلك يجب إقالة الفريق الاقتصادي الممثل لهذا النهج فوراً، ويجب المطالبة بتخطيط لنمو اقتصادي بناء على الضرورة وليس على الإمكان، ويجب تأميم القطاعات المحتكرة والأعلى ربحية كقطاع الاتصالات، ويجب أيضاً، بناء نموذج اقتصادي وطني إنتاجي.

الآجال الزمنية محدودة، والتغييرات المطلوبة عميقة، والفوضى تقرع الأبواب من خلال الثغرات في الوحدة الوطنية الني وسعتها وعمقتها سياسات الإفقار. أما الإجراءات المماثلة، فلن تفيد إلا بالتحريض وزيادة الاحتقان، لأنها ستوضح للشعب السوري غياب ممثليه الحقيقيين، وتدفعه إلى خلق البدائل، مهما كان الثمن.