التداعي الأميركي: أزمة الحليف الأوروبي ٢/٤

التداعي الأميركي: أزمة الحليف الأوروبي ٢/٤

شكل التحالف الأمريكي- الأوروبي العصب السياسي والعسكري الرئيسي للمعسكر الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، والرافعة الجيوسياسية الأهم للهيمنة الأمريكية بعيد تفكك المنظومة الاشتراكية. إلا أن تغير السياقات الدولية وتغير الأوزان النسبية ألقت بظلالها على طبيعة التحالف ومضمونه. تعالج هذه الحلقة بإيجاز تراكب الأزمة الوجودية للوحدة الأوروبية، مع القصور والفشل في الوظائف الجيوسياسية الأبرز للاتحاد الأوروبي وأثر ذلك على الدور الدولي لأمريكا.

الطور السياسي للأزمة الاقتصادية

يشهد الاقتصاد الأوروبي أزمة حادة لا حل لها من الزاوية التقنية البحتة إلا عبر التوحيد المالي لدول منطقة اليورو بما يعنيه من ضرورة تحقق المستحيل أي قيام اتحاد سياسي أوروبي «اتحاد الدول الأوروبي». الأزمة الاقتصادية دخلت طورها السياسي. فعلى المستوى الرسمي استمر الميل العام لبريطانيا بالتمايز عن الاتحاد الأوروبي الأمر الذي تجلى برفضها دفع جزء من التزاماتها للميزانية المركزية للاتحاد الأوروبي، كما تقدمت الأحزاب المنادية بالخروج من الاتحاد الأوروبي في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة (قوى يمين في غرب وشمال أوروبا وقوى يسارية في الجنوب) حاصدة المركز الأول في كل من فرنسا وبريطانيا واليونان ومحققة مراكز متقدمة في دول أخرى.

أما على المستوى الشعبي، فقد تشكلت حركات شعبية احتجاجية في الجنوب الأوروبي يشتد عودها السياسي بشكل متسارع، بالإضافة لتسارع تبلورها التنظيمي على أعمق المستويات الاجتماعية وخارج أطر الأحزاب السياسية التقليدية، لدرجة اضطرار المراكز الإعلامية الكبرى لتلميع بعض قوى اليسار الخلبي وتقديمها كقوى جذرية ضمن مسعى حرف وتأخير تطور الحركات الشعبية وتأريض كمونها الثوري.

مآلات الأزمة وآثارها الجيوسياسية

يرصد توماس رايت، الباحث في برنامج إدارة النظام الدولي التابع لمعهد بروكينغ، السيناريوهات المستقبلية المحتملة للأزمة الأوروبية فيكتب «لإخفاق قد يأخذ شكلين، الأول يسمح لمنطقة اليورو والاتحاد الأوروبي أن يبقيا على قيد الحياة بصعوبة في ظل ظروف نمو منخفض وبطالة عالية واضطرابات واهتياج اجتماعي، لا بسبب إيمان الدول الأعضاء بالمشروع (الأوروبي)، ولكن بسبب عدم مقدرتهم على تخليص أنفسهم منه بتكلفة محتملة. الشكل الثاني هو إخفاق يؤدى إلى انهيار غير منظم لليورو و/أو الاتحاد الأوروبي. من المؤكد أن هناك سيناريو ثالث: النجاح (…) النجاح هو احتمال بعيد عن أن يكون مضمونا لأسباب متعددة، إذ أن رد الاتحاد الأوروبي تحدده ألمانيا بالإضافة إلى أنه ينطوي على آفاق محدودة لاستعادة النمو في دول المحيط الأوروبي، بالإضافة لكون الحس القومي قوياً ومتنامياً الأمر الذي سيعقد التحركات نحو إنشاء اتحاد الدول الأوروبية، عدا عن وجود انقسامات جدية مازالت مستمرة(...) كما قال أحد المسؤولين الألمان المهمين للفاينانشل تايمز يبدو لي أننا اخترعنا آلة من الجحيم ولا نستطيع إيقافها».

أما عن التبعات السياسية لهذه السيناريوهات فيكتب «إذا سقطت أوروبا، فإن الرافعة العابرة للأطلسي للنظام العالمي ستبدأ بالتفتت. وفق السيناريو الرحيم نسبيا، أي البقاء بصعوبة، ستنكفئ أوروبا على ذاتها بسبب انشغالها السياسي والاقتصادي والدبلوماسي في معالجة أزمتها الوجودية. في ظل ظروف كهذه، يصبح من الصعب تخيل كيف سيُقبل الأوروبيون على لعب دور جدي في الشؤون الدولية. حتى لو فعلوا ذلك فالميزانيات العسكرية ستستمر بالانخفاض بسبب برامج التقشف، كما أن فجوة الاستطاعة مع الولايات المتحدة ستتوسع. كما ستهلك القوة الناعمة الأوروبية التي لطالما أشار إليها المتفائلون كونها الإسهام الحقيقي الأوروبي في السياسة العالمية. إذا اتخذ الإخفاق شكل الانهيار غير المنظم فإن النتائج ستكون أسوأ بما لا يقاس، إذ ستترنح أوروبا تحت صدمة ذات أبعاد تاريخية، وسيتوجب على الولايات المتحدة أن تتدبر أمرها في مناخ جيوسياسي يزداد سوءاً بتسارع بشكل خاص في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والصين، ولكن أيضاً في عدد من الدول الهشة حول العالم. إن الطلب على قيادة عالمية وإدارة للأزمات سيرتفع بنفس الوقت الذي تشهد فيه الرافعة الغربية حالة انهيار.»   

في تشخيص الآثار على منطقتنا في حال الإخفاق الأوروبي «بالحد الأدنى فإن الشعبوية والحركات الثورية ستزدهر. بعض الأنظمة السياسية ستنهار في سياق بحث الشعوب عن بدائل(..)من المرجح أن تحمل الاضطرابات السياسية داخل الشرق الأوسط أخطاراً جيوسياسية عظمى. من المرجح أن يؤدي نهوض الأحزاب الثورية والقومية وتلك التي تجري مراجعات إلى التهديد الجدي للتنسيق الاقليمي، وبشكل خاص مع «إسرائيل»».

القصور/الفشل في الوظائف الجيوسياسية

مجالا النفوذ الأهم للاتحاد الأوروبي كوحدة سياسية (بغض النظر عن الأدوار الدولية الخاصة لدوله الأساسي) هما منطقتا حوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا الشرقية مع جنوب القوقاز. أما الوظيفة الأبرز فهي إعادة الهيكلة الاقتصادية من ناحية، عبر التحرير الاقتصادي وتعميق الإلحاق التجاري والمالي (اتفاقية الشراكة المتوسطية، واتفاقية الشراكة الشرقية)، وإعادة الهيكلة السياسية، تحت شعار الديمقراطية، عبر العمل على تخفيض مستوى مركزية الدولة بالترافق مع تخفيض دورها وتركيب دورة سياسية لا تتوافق ومستوى التطور التاريخي للبلدان المعنية  بالإضافة للعمل على إعادة صياغة أشكال التمثيل السياسي أو ما يسمى بـ«المجتمع المدني» ومضمون عمله عبر تمويل «برامج» تركز على القضايا الاجتماعية الثانوية (وبمعالجة سطحية).

بالنسبة لشرق أوروبا وجنوب القوقاز، فقد حمل عام ٢٠١٤ هزائم كبرى للتوسعية الأوروبية وتحديداً في محاولة الربط الاقتصادي العميق لكل من أوكرانيا ومولدافيا وأرمينيا وجورجيا والذي شددت أوروبا بأن عضويته تتناقض مع العضوية في الاتحاد الأوراسي الجمركي الذي تعتبر روسيا الدولة الأبرز فيه. النتيجة كانت اختيار أرمينيا للاتحاد الأوراسي وعدم توقيع أوكرانيا للشراكة مع أوروبا، الأمر الذي أعقبه تفجير الأزمة الأوكرانية. لاحقاً صاحب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في أوكرانيا في أيلول الماضي توقيع اتفاقية الشراكة بين أوروبا وأوكرانيا مع وقف التنفيذ حتى نهاية ٢٠١٥ وأخذ مصالح روسيا بعين الاعتبار بحيث تدخل البضائع الأوكرانية لأوروبا دون جمارك ومقابل دخول البضائع الأوروبية أوكرانيا بجمارك بما يمنع اختراقها السوق الروسية بالاستفادة من اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين موسكو وكييف الأمر الذي كان مطلباً روسياً منذ البداية.

لمعرفة حجم الخسارة الغربية في معركة أوكرانيا تكفي الإشارة إلى تراجع بريجنسكي عن هوسه التاريخي بضم أوكرانيا لحلف الناتو، إذ يحدد الهدف الذي يجب أن يسعى إليه الغرب بإيجاد صيغة على صورة ما تم التوصل إليه بخصوص فنلندا بعد الحرب العالمية الثانية، إذ لم تنضم إلى الكتلة الشرقية شرط أن لا تدخل أي حلف رأسمالي غربي معاد للاتحاد السوفيتي. أي بالملموس، عدم دخول أوكرانيا حلف الناتو مع تعهد بعدم دخولها أي حلف عسكري تعتبره روسيا تهديدا لأمنها القومي، بالوقت نفسه الذي يتم تخفيض سقف العلاقة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي من انضمامها إليه إلى تنمية علاقات اقتصادية جيدة والربط المستقبلي مع أوروبا، كل ذلك مع ضمان علاقات اقتصادية روسية- أوكرانية جيدة، على أن يكون ثمن كل ذلك هو عدم دخول أوكرانيا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، مؤكداً في مداخلته أواخر ٢٠١٤ «لا أتوقع أن تركع روسيا على قدميها.. أقصى مايمكن توقعه هو تسوية أمر واقع تبقي روسيا محتلة للقرم متقبلة الحدود الحالية لأوكرانيا مع إعطاء وضع خاص للأراضي المتنازع عليها». بالمختصر فالمدافع الأبرز عن التوسعية الأوروبية شرقا انتقل من الهجوم، أي المطالبة بضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي والناتو، إلى الدفاع بالمطالبة بعدم دخولها الاتحاد الأوراسي!

أكثر من ذلك، فللأزمة الأوكرانية وتفاعلاتها آثار كبرى على الوحدة السياسية الداخلية الأوروبية و«الوحدة» الأمريكية- الأوروبية، إذ يشير بريجنسكي في هذه المداخلة إلى وجود استراتيجية روسية مستندة على وجود صراع داخلي أوروبي «تهدف إلى تقسيم أوروبا»، الأمر المُتضمن في هدف استراتيجي أكبر هو «فصل أوروبا عن أمريكا، الأمر الذي سيهدد التحالف الأطلنطلي»، فروسيا تسعى لـ«خلق شلل ذاتي في هذا التحالف» منبها بأنه «يجب عدم تجاهل هذا الهدف» تحديداً في سياق الدور المنوط بأوروبا أن تلعبه في أوكرانيا إذ يتوجب عليها مواجهة وتحمل التكاليف الكبيرة لأزمة الاقتصاد الأوكراني، معترفاً بأنه «ضمن هذه المعطيات، فإن هدف تقسيم أوروبا يصبح أكثر قابلية للتحقق.. هذه هي المعضلة التي نواجهها». فحلم «جذب» أوروبا لروسيا تحول لانقسام أوروبا في الموقف من روسيا وجذب الأخيرة لبعض الأوساط الأوروبية.

على «الجبهة الجنوبية» تواجه أوروبا تحديات قد تكون على قدر أكبر من الأهمية قد تغير بالمستقبل القريب من موقعها كـ«قوة ناعمة» فحسب الباحث شتياف لين في معهد كارنينغي فإن أوربا عاجزة أمام «الديناميات المهولة للتغيرات السياسي» في المنطقة العربية بالإضافة لكون أوروبا «لا تواجه عدواً وحيداً كماهي الحال في الشرق مع روسيا. عوضاً عن ذلك ظهرت مجموعة من اللاعبين لكل منهم أجندته(..) إن دور أولئك اللاعبين يقلل الأهمية النسبية للجهود الأوروبية وبالتالي لنفوذها».

ماهي العتبة التي إذا تجاوزها التراجع الأوروبي تتضرر الهيمنة الأمريكية بشكل جدي؟ عندما يتجاوز حجم الفراغ الناشئ عن التراجع الأوروبي إمكانيات الولايات المتحدة بملئه، بالوقت الذي يرتفع فيه الوزن الدولي لكل من الصين وروسيا بالإضافة للعديد من الدول الاقليمية (ايران.. إلخ) في ذات الوقت الذي يخف فيه مستوى مطواعية حلفاء إقليميين بسرعات واتجاهات مختلفة. الأرجح أن تضافر العوامل السابقة سيؤدي إلى رفع الوزن النسبي للعنف والأدوات العسكرية ضمن السياسات الامبريالية لأوروبا. بالتالي، فإن مواجهة السياسات الامبريالية تتطلب قبل كل شيء السير على سكة الحلول السياسية وتفكيك ألغام سياسة «إما الهيمنة أو التخريب».

 

آخر تعديل على الخميس, 19 شباط/فبراير 2015 16:06