التداعي الأمريكي: اعترافات استراتيجي أمريكي ١/٤

التداعي الأمريكي: اعترافات استراتيجي أمريكي ١/٤

تهدف هذه السلسلة إلى العرض المكثف لبعض التحولات الدولية المفتاحية التي تسمح بتكوين صورة عن مستوى التقهقر الأمريكي والغربي المتسارع. تعمل هذه الحلقة على الاستعراض السريع لطروحات زبنغيو بريجنسكي* الراهنة، بعد نشر مقالته  جيواستراتيجية من أجل أوراسيا، ليتبين كيف روض التاريخ لغة العنجهية والصلف لتتحول للغة قلق و«واقعية». على أن تقوم الحلقة الثانية بمعالجة الأزمة الأوروبية الداخلية، مآلاتها وآثارها على الهيمنة الأمريكية، بالإضافة لمعالجة الأزمة التي يعانيها الدور الوظيفي للاتحاد الأوروبي في الهيمنة الغربية، لتعمل الحلقة الثالثة على تعميق معالجة هذه النقطة عبر تناول الشقاق السياسي الحاد في ألمانيا حول الموقف من الأزمة الأوكرانية وروسيا. وتختتم الحلقة الرابعة بمعالجة التحولات في العلاقة الروسية-الصينية، مدلولاتها وآثارها.

نهاية الهيمنة الغربية-الأمريكية

في تشخيصه لوضع القوة الأمريكية يفتتح بريجنسكي محاضرته دور الغرب في عالم ما بعد الهيمنة المعقد بالقول «نقطة الانطلاق بخطابي اليوم هي الاعتراف بحقيقة أساسية جديدة: إن الهيمنة الكلية من قبل أي قوة منفردة لم تعد إمكانية واقعية»، وفي ما يشبه انتقاداً ذاتياً، أضاف بأن تفكك الاتحاد السوفيتي «أعطى مساحة للتنفس ولكن بنفس الوقت لأوهام كبرى بإمكانية كون القرن الحالي قرناً تلعب فيه الولايات المتحدة دور المهيمن[..] بعد عشرين عاماً فإن هيمنة أمريكية عالمية حقيقية واسعة لم تعد ممكنة». أما فيما يتعلق بتشخيصه لأسباب هذا التحول، فيركز على ثلاثة عوامل:

1- «التسارع الكبير جدا بالتغيرات الاجتماعية في العقد الأخير[..] وبشكل خاص بسبب وسائط التواصل الاجتماعي (الراديو التلفزيون والانترنت) التي حرضت بشكل تراكمي استيقاظاً كونياً للوعي السياسي للشعوب، مما أدى لتصاعد النشاطات السياسية الشعبوية المعادية للهيمنة الخارجية من النوع الذي ساد أيام عصر الاستعمار والامبريالية. لقد تبين صعوبة ترويض وقمع المقاومة الشعبوية المتحفزة والمداومة لشعوب تتيقظ سياسياً وممتعضة من التحكم الخارجي». في محاضرته في شاتام هاوس أوضح «لأول مرة في التاريخ فإن البشرية جمعاء قد أصبحت فاعلة ومتيقظة ومتفاعلة فيما بينها سياسياً»، معلقاً «اليوم، من الأسهل بكثير قتل مليون شخص من التحكم  بمليون شخص. لقد غدا القتل أسهل من التحكم». يشير بريجنسكي إلى دور الحربين العالميتين بالنهوض السياسي الشعبي دون أن يوضح ذلك، فالأولى أنتجت الثورة الاشتراكية في روسيا، والثانية انتهت بتحول الاتحاد السوفيتي لقوة عظمى الأمر الذي أعطى دفعة كبرى لتبلور حركات التحرر الوطني، وفتح الباب لإنهاء عصر الاستعمار التقليدي ونشوء مشاريع الدولة الوطنية في ما أطلق عليه بدول «العالم الثالث». في محاضرته أمام مجموعة من القيادات العالمية اعتبر استيقاظ الوعي السياسي العالمي «تهديداً للسلم العالمي[..] فتراكب تصاعد التطلعات الشعبوية مع الصعوبات المتأصلة التي تواجه تكوين معالجات دولية مشتركة للأزمات الاقتصادية والسياسية يمثل خطراً بنشوء فوضى عالمية». لا يذهب بريجنسكي أبعد من ذلك في تحليل أسباب هذا التناقض الذي يعبر عن العجز المتأصل بالنظام الرأسمالي عن توفير حلول جذرية للمشاكل الاجتماعية بأبعادها الاقتصادية والسياسية مما يؤدي لاستمرار وتنامي ما يسميه مثقفو الامبريالية بالحركات «الشعبوية»، كما يعبر عن التناقضات «البين رأسمالية» المتأصلة والتي تمنعها من إيجاد «معالجات مشتركة»، لأن البنية الرأسمالية لا تسمح باستقرار تسويات دولية من نوع «لا غالب ولا مغلوب».

2- «نهاية التغير أو التحول في مركز الجاذبية للقوة السياسية من الغرب إلى الشرق يؤشر بشكل قطعي إلى بداية عصر تاريخي جديد وتوزيع أعقد للقوة العالمية». في محاضرة شاتام هاوس يعلق «إن السيادة العالمية للقوى الأطلسية على مدى الـ٥٠٠ عام الأخيرة أتت إلى نهايتها، مع التفوق الصيني والياباني، بانتظار الهند وربما روسيا المتعافية».

3- «امتلاك القوى الكبرى لأسلحة ذات قوة تدميرية متزايدة جعل من مفهوم النصر، بحرب نووية فيما بين تلك القوى، مكلف بما يمنع وقوعها، مما عزز حالة ضبط النفس الأمر الذي لم يكن موجودا في العصر ما قبل الذري». مما يعني أنه لم يعد باستطاعة المراكز الامبريالية اللجوء للقوة العسكرية في لحظات أزمات الهيمنة بالسهولة التي عهدتها من قبل. 

مشاكل الثالوث الامبريالي

بالنسبة لأمريكا فـ«النظام السياسي الأمريكي مختنق ومأزوم بشكل متصاعد وغير قادر على معالجة فاعلة للمشاكل الاقتصادية والمالية الجدية للبلد، بشكل خاص تلك المشاكل التي تولد تفاوتات اجتماعية متزايدة». أما «الاتحاد الأوروبي، فيبرهن بشكل محزن على أنه أقل وحدة من سلفه السابق الصغير المجموعة الأوروبية[..] إن الاتحاد الأوروبي كما هو عليه اليوم، يؤثر بشكل محدود على الأوضاع العالمية». ويتابع منتقداً «فقط مجموعة من الدول الأوروبية المنفردة والأكثر قوة، مع اثنتين منها تتمتعان بحظوة حق الفيتو في الأمم المتحدة، وتتصرفان فقط بين الفينة والأخرى ولأغراض محددة كلاعبين دوليين جديين، عدا عن كون واحدة منهما، بريطانيا العظمى، تتلكأ بالتعريف بنفسها كأوروبية». أما بخصوص اليابان فيشير إلى أنها «تتصرف كمواطن دولي صالح، لكنها قوة عالمية سلبية وماتزال مترددة بخصوص وظيفتها» ويضيف «إن الانعزال الاقليمي لليابان يتعمق باستمرار بسبب تواصل العداء المتبادل مع جارتها المباشرة كوريا الجنوبية. في مواجهة التوترات المتصاعدة مع الصين فالعلاقة الثنائية مع الولايات المتحدة بالنسبة لليابان هي في الوقت الحالي بمثابة غطاء ودثار أمني فقط.»

إشكالية القيادة الدولية

حول إشكالية القيادة الأمريكية يكتب «في عصر تاريخي كهذا تتعقد فيه الضوابط الجيوسياسية بشكل كبير، مازال هناك الكثير مما يعتمد على كيف تتصرف أمريكا بالقضايا الدولية[..] لكن بشكل أكثر مما كانت عليه الحال في الفترة القريبة السابقة هناك الكثير أيضا مما يعتمد على تصرف القوى الكبرى الأخرى في سياق السعي لتحقيق صفقة[..] لا تستطيع أي من القوى العالمية القيادية أن تحقق وحدها الإطار الضروري من أجل استقرار جيوسياسي للقارة الأوراسية». ليؤكد في محاضرة شاتام بأنّ دينامية التغير هذه تعني أنّ «أزمة الزعامة الأمريكية تتحول إلى أزمة في الاستقرار العالمي» وهو ما يتضمن إشارة واضحة بأن سعي الدول الصاعدة والعائدة إلى السيادة الاقليمية لن يمر دون توتير وزعزعة استقرار من أمريكا. في هذا السياق فإنّ «أربع كلمات استراتيجية مفعمة بالمعاني تحدد جوهر الرد المطلوب: التوحيد، التوسيع، الجذب وإحلال السلام»

«التوحيد يعني إعادة إرساء فهم مشترك للغايات والأهداف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما في داخل  الناتو[..] يدرك جيدا كل من الأمريكان والأوروبيين بأن ليس هناك، حتى الآن، من هدف مشترك أكثر أهمية من أوروبا موحدة. إن غياب أوروبا موحدة يخلق تعقيدات جدية لأي عملية إحياء وإعادة تأسيس حوار بين طرفي الأطلسي»، طبعاً يشير بريجنسكي إلى أن أوروبا موحدة هو أمر صعب المنال، لذلك فمن الأفضل اللجوء إلى حوار أمريكي مع الثالوث الأوروبي، بريطانيا، فرنسا وألمانيا[..] الأمر الذي يتطلب قبل كل شيء أن يتوصل هذا الثالوث إلى رؤية استراتيجية مشتركة. كما طالب بـ«الالتزام الأكثر حزماً من الدول التي لم توظف كامل كمونها البناء لتلعب دوراً إقليمياً مهماً. في أوروبا، في ذهني بشكل محدد ألمانيا القوية اقتصادياً، وتركيا ذات الأهمية الاستراتيجية المتزايدة. كما يتوجب على اليابان، القوى الاقتصادية الثالثة، أن ترفع من وزنها الدولي».

«التوسيع يتضمن بذل جهود بهدف إقامة تحالف أعمق بين الشركاء الأساسيين» ويشير الكاتب بأن هذا التحالف يجب أن يقوم على «مبدأ الترابط» (الاسم الحركي والايديولوجي لعملية تعميق الربط الاقتصادي للدول المستهدفة مع دول المركز الرأسمالي عبر التحرير التجاري والمالي لتخفيض مستوى الاستقلالية النسبية بتأمين حاجاتها وإيجاد روافع للضغط عليها ضمن مسعى استيعابها وهضمها وإعادة إنتاجها على صورة مصالح دول المركز.

أما الجذب فالمقصود به «رعاية حوارات غير رسمية على أعلى المستويات فيما بين القوى الدولية الأساسية: أمريكا، الثالوث الأوروبي، الصين، اليابان، روسيا وربما الهند أيضاً «الأمر الذي يجب أن يتضمن صيانة العلاقات الأمريكية -الصينية التي من دونها «لا يمكن معالجة المشاكل الأساسية التي نواجهها». أما «المسؤولية الخاصة» لأوروبا فهي محاولة إشراك روسيا بأسلوب يسحبها نحو شراكة مع أوروبا ولكن دون أن تحضر أمتعتها الامبراطورية معها».

أما إحلال السلام فـ«يتطلب جهداً أمريكياً لتفادي الوقوع في مستنقعات عسكرية وسياسية في المنطقة الواقعة من قناة السويس شرقاً حتى غرب الهند» (طبعا عبر الاستعاضة عن ذلك بتفجير الصراعات الداخلية في هذه المنطقة)، الأمر الذي يشمل التفاوض مع إيران وتجنب حرب معها وتقسيم أفغانستان عبر الاعتراف بسيادة طالبان على المناطق الواقعة تحت سيطرتها. في هذا السياق يؤكد بريجنسكي أن الولايات المتحدة يجب أن تعمل على إحلال صفقة «سلام» بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين» تنتهي بقيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح مع وجود محتمل للناتو فيها لضمان أمن «إسرائيل» بنفس الوقت الذي يتنازل فيه الفلسطينيون عن حق العودة مع السعي لإيجاد تعويض مادي لهم، بالإضافة لـ«تقاسم ذكي» لمدينة القدس.

تعالج الحلقات القادمة فشل هذه الوصفات بالتركيز على الثلاث الأولى منها، ليتبدى الواقع أشد إيلاما من اعترافات المثقفين العضويين للإمبريالية.

 

*مفكر استراتيجي وكادر من كوادر السياسة الخارجية للولايات المتحدة الذين، رغم تغير رؤساء البلد، لا يتغيرون. مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر فترة ١٩٧٧ـ١٩٨١ وحائز على جائزة الحرية لدوره بتطبيع العلاقات الأمريكية-الصينية. عضو مؤسس مع دايفيد روكفلر للجنة الثلاثية الأمريكيةـ الأوروبيةـ اليابانية أو ما يعرف بالثالوث الامبريالي. يعرف عن الكاتب انخراطه الرسمي والميداني في قضايا السياسة الخارجية. نجد على شبكة الانترنت أثرا للقائه قادة طالبان (المعروف عنه إسهامه المباشر في إنشاء القاعدة)، ولكلمته الموجهة للمتظاهرين في كييف.

آخر تعديل على الخميس, 19 شباط/فبراير 2015 16:05