عندما يكون سوق العمل رمالاً متحركة

عندما يكون سوق العمل رمالاً متحركة

ولدت وولد معها قدرها الممزوج بالقهر والفقر والبؤس، حنان سيدة بالخامسة والثلاثين من عمرها، هذه السنوات التي قضتها في فرامات سوق العمل منذ أن كانت طفلة، منذ نعومة أظفارها التي لا تتناسب وشدة خشونة هذه الفرامات التي لا توفر كبيراً أو صغيراً، هذه المطحنة التي تطحن كل من يدخل ضمنها سواء كانت امرأة أو رجلاً، سواء كان طفلاً أو مسناً. فبدلاً من استكمال تعليمها وممارسة طفولتها بالشكل السليم، بدأت حنان خوض معارك سوق العمل القاسية وعمرها لا يتجاوز عشر سنوات من أجل مساعدة أسرتها وإعانتها على تأمين لقمة عيشهم.

استمرار البؤس

تزوجت حنان وهي في الثامنة عشر من عمرها، لعل وعسى أن يؤمن لها زوجها حياة كريمة بعيداً عن قذارة سوق العمل وحقارته وذكوريته، إلا أن قدرها البائس لا يريد مفارقتها طالما هي على قيد الحياة، فالظروف الاقتصادية أخذت بالسوء أكثر وأكثر وسنة وراء أخرى كانت نسبة المفقرين تتزايد وتتضاعف، مما اضطرها إلى العودة إلى كابوسها، العودة إلى مكان لا ينتمي إليها، العودة إلى سوق العمل ولكن هذه المرة بوتيرة بؤس وشقاء أشد وأشد. هذه المرة ليست كسابقتها هي الآن سيدة متزوجة لديها طفلان، مسؤوليتها في تزايد مستمر، وبالتالي الضغط الذي تتعرض له في تزايد هو الآخر، (أجار البيت، مصاريف الأطفال، وتكاليف العائلة المرهقة) ما اضطرها إلى الوقوف مع زوجها يداً بيد متعاونين ويساند أحدهما الآخر في مواجهة التكاليف المعيشية المتزايدة.

القهر المستدام

كغيرهم من جل الشعب السوري الذي عانى ما عاناه جرّاء سنوات الأزمة ورعبها، تعرضت هذه العائلة الصغيرة المتألفة من أربعة أفراد، لمعظم أنواع الكوارث الإنسانية التي أصابت السوريين، فالبداية تمثلت برحلة النزوح من مكان إلى آخر، بحثاً عن الأمان وهروباً من قذيفة تخترق نومهم، أو رصاصة طائشة تفتك بأحدهم، أو انضمام أحد أفراد العائلة إلى قائمة المفقودين (هذا الفقد غير منتهي المدة)، وإضافة إلى كل هذه الظروف والضغوط المختلفة التي تعرضوا لها، كانت ظروفهم الاقتصادية وأمنهم المعيشي يزداد سوءاً وتشوهاً. ففي ظل الأوضاع التي كانت سائدة في بدايات الأزمة فإن تأمين لقمة العيش يعني رحلة بين شظية أو رصاصة. ولا خيار أمامهم سوى خوض هذه الرحلة محفوفة المخاطر ويبدو أن تأمين تكاليف عيش أولادهم أشد ألماً وأشد خطورةً من تعرض الأب أو الأم للموت أو الفقد.

الكارثة التي لا حل لها

جرّاء سنوات الرعب والفقد والتدمير، يكاد لا يوجد سوري إلا ولديه ذكرى قاسية، تاريخ يذكّر أماً بموت ابنها، أو يذكر زوجاً بتاريخ فقد زوجته، أو يذكر أباً بفقدان وحيده، هذا التقليد الذي ضرب السوريين بشكل عام والاختلاف فقط هو بالتاريخ، هذا التقليد الذي يضرب قلوبهم ومشاعرهم ويسيل دمعهم في كل سنة يتكرر بها. وحنان أيضاً لها تاريخ لا يمكن لها أن تنساه لا يمكن أن يمر بالنسبة لها مرور الكرام. في العاشر من نيسان لعام 2014 وقع المحظور، وقعت الكارثة التي لا يمكن التعايش معها ولا حل لها، هذا التاريخ القاتل الذي يقتحم هدوء الأم وطفليها ليذكرهم بتاريخ اختفاء من كان يخفف عنهم سوء حياتهم ورعبها، في هذا التاريخ فُقد زوج السيدة حنان فقداً يبدو أنه لا نهاية له، في كل مرة يتكرر هذا التاريخ يفتح جراحها ويجدد أملها بعودة زوجها، يجدد أملاً هي على يقين أنه غير موجود هي على يقين أن زوجها لن يعود ولن تراه مرة أخرى إلا أن هذا الأمل الوحيد الذي يجعلها متمسكة بحياتها، كذبها على أطفالها بأن أباهم مسافر وأن عودته هي مسألة وقت، هذه الكذبة السوداء تطمئن قلبها ولو للحظة، في كل مرة تقول لأولادها بأن أباهم مسافر تتمنى لو أنها طفلة من أطفاله تمارس حياتها وهي متأكدة من أن عودته هي مسألة وقت فقط.

فقد من نوع آخر

على مدار حياتها وبمختلف مراحلها منذ طفولتها أو بعد زواجها، أو حتى بعد فقدانها لزوجها فإن الشيء الثابت الوحيد هو نضالها المعيشي وكفاحها اليومي واللحظي في سبيل تأمين ما تيسر من أكل وشرب لها ولأطفالها، أو حتى لأطفالها فقط.

بعد خوضها أكثر من عشرين عاماً بالعمل في مهنة صناعة الألبسة وبمختلف مراحلها وأقسامها بدءاً من الأمبلاج مروراً بالعمل على مكنات الخياطة، وصولاً إلى وظيفة المقصدار المسؤول عن تصميم الموديلات وقصها وتجهيزها للخياطة، هذه الوظيفة التي وصلت إليها حنان أخيراً نظراً لخبراتها المتراكمة ولما تحمله هذه الوظيفة من أجر متميز وبالتالي وضع معيشي أقل بؤساً. ولكن مقابل هذه الميزات المعيشية توجد مخاطر بسبب التعامل مع المقص الكهربائي الذي يمكن أن يخطف إصبعاً أو حتى يداً كاملة في لحظة شرود ذهني أو عدم انتباه لا تتجاوز ثوانيَ معدودة. وللأسف هذا ما تعرضت له السيدة حنان.

في الذكرى الثامنة لفقدان زوجها وفي التاريخ ذاته ونتيجة لحجم الرعب النفسي والعاطفي والفكري الذي تجلبه هذه الذكرى للسيدة حنان، أثناء ممارستها لعملها بشكل طبيعي داهمتها لحظة شرود لعلها كانت تتذكر ضحكته، أو صوته، أو أنها تتذكر طبيعة مشاعرها عندما عرفت بذاك الخبر قبل ثماني سنوات، لعل ما خطر لها في تلك اللحظة هو أن زوجها لن يعود وأنه توفي، هذه الأفكار التي جعلتها تسهو لبضع ثوانٍ وكانت النتيجة أن فقد ثلاثة أصابع من يدها، وكأن المقص في جوف عقلها، كأنه تكلم بحزم وقال لها (خلص افقدي الأمل زوجك لن يعود)، لتزداد قائمة المفقودين بالنسبة لها في هذا التاريخ ولكن هذه المرة فقدت جزءاً منها، طرفاً من أطرافها، هذه المرة فقد من نوع آخر.

الخلاصة

هذا القدر الذي ولد مع السيدة حنان، هو قدر يتشاركه أبناء الطبقة العاملة، هذا الفقر والبؤس المستدام هو نتيجة للسياسات الليبرالية المتوحشة المنتهجة من قبل الحكومة منذ أكثر من عشرين عاماً، هذه السياسات التي لا تؤمن أياً من شروط تأمينية للعمال والكادحين، هذه السياسات التي حررت القطاع الخاص من معايير السلامة المهنية والالتزام بها، وعرضت المكافحين من أجل لقمتهم وعيشهم «العمال» إلى فقدان حياتهم وتعرضهم لأمراض وإصابات العمل بدون أي تعويض أو مقابل

معلومات إضافية

العدد رقم:
1131
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:25