وهم الاختيار

وهم الاختيار

يقف الفرد اليوم في بحثه عن فرصة عمل تناسب قدراته ورغباته عاجزاً أمام هول الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تحول بينه وبين مهنة أو وظيفة أو فرصة عمل يستطيع من خلالها اكتشاف ذاته وتحقيقها. فلطالما ارتبط العمل بماهيتنا وطبيعتنا الإنسانية، ويعتبر النشاط الإنتاجي أي (العمل) المحرك الأساسي لتقدم الإنسانية وتطورها من جهة ومن جهة أخرى فإن العمل هو جوهر الإنسان الذي يحدد كينونته والغاية من وجوده.

إن اختيار المهنة المناسبة أصبح في ظل السياسات الليبرالية المتوحشة المتبعة حلماً مستحيل المنال، بل حتى أنه أصبح ضرباً من ضروب الخيال. هذه السياسات المصممة خصيصاً بما يتناسب ومصالح أصحاب الأرباح وجيوبهم وبالتالي مصممة بالضد من مصالح الطبقة العاملة والغالبية العظمى وأفراد المجتمع، وعليه فإن فرص العمل المتاحة أمام الشباب وقدراته ومواهبه (ودوره الهام في استنهاض البلاد) متاحة بالقدر الذي يتناسب وغايات القلة الناهبة– التي لا تأبه لأي معيار وطني– المتحكمة بكل مفصل من مفاصل الحياة اليومية للسوريين.

يحق لأي شاب أو شابة أن يختار فرصة العمل التي تناسبه بكامل الحرية، ولكن ما هو شكل هذه الحرية؟ وكيف تتم المفاضلة بين فرص العمل المتاحة؟ هل فعلاً الفرد قادر على اختيار المهنة التي يرغب بها؟ من أجل إيجاد إجابات لهذه الأسئلة نعرض فيما يلي حالة من الحالات التي تعبر عن حال الشباب وفرص العمل المتاحة لهم.

الحالة الأولى:

يعمل جاد سائقاً على إحدى التكاسي بقلب المدينة وهو خريج جامعة دمشق اختصاص علم النفس بمعدل 75.6%. يقول جاد أنه لطالما عشق هذا الاختصاص وهو قارئ نهم للكثير من علماء النفس وعلى رأسهم فرويد وعلى حد تعبيره فإن العلاقة التي تربطه بين علم النفس بشكل عام وفرويد بشكل خاص علاقة عاطفية من نوع خاص جداً، وعلى الرغم من قدرته الذهنية المرتفعة وذكائه في المواد العلمية وخاصة الرياضيات، اختار أن يدرس الثانوية العامة (الأدبي) مضحياً بكل فرص الاختصاصات العلمية على رأسها الطب بمختلف تخصصاته، سعياً وشغفاً منه باختصاص علم النفس. على الرغم من تخرجه بمعدل جيد، إلا أنه يعمل اليوم مجبراً سائقاً على إحدى التكاسي سعياً منه لتأمين متطلبات معيشته الأساسية (شديدة الارتفاع بالتكاليف) على حد قوله. وعند سؤاله عن عدم عمله بمجال اختصاصه أجاب ساخراً بأنه لا توجد فرص عمل لهذا النوع من الاختصاصات خاصة في ظل النظرة السائدة للأمراض وللأطباء النفسيين، وكل ذلك في ظل الضغط المعيشي الذي أجبره على أن يعمل بمهنة لا تنتمي إليه لا من قريب ولا من بعيد، مؤكداً على أن شغفه بهذا الاختصاص لم ينضب خاصة وأن المنفذ الوحيد الذي يستطيع من خلاله ممارسة ما يحب هو الحديث مع الركاب عن اختصاصه وأهميته وحبه له محاولاً في ذلك أن يعود إلى الذات التي ينتمي لها مواسياً نفسه على عدم قدرته على العمل باختصاصه الذي يحب والترزق منه بالنهاية.

الحالة الثانية:

نور... الأنثى مفعمة الحيوية والحاملة لكم هائل من العاطفة والمشاعر. تعمل نور في إحدى شركات الحوالات المالية في مدينة جرمانا، التقيت بها أثناء زيارتي لاحد الأصدقاء في المدينة. وكما هي العادة فقد أخذ الحديث عدة اتجاهات منها الحديث عن أحد المسلسلات وبعض المواهب الشابة المشاركة بهذا المسلسل، لتبدأ نور بإعطاء رأي وتقييم، فهمت من خلاله أنها ذات خلفية فنية لا بأس بها وما إلى ذلك، ليتضح لاحقاً أنها تقدمت إلى المعهد العالي للتمثيل أربع مرات على التوالي. وعبرت عن مدى تعلقها وشغفها وإصرارها على مهنة التمثيل والنجاح بها وهذا ما دفعها إلى المحاولة أربع مرات على التوالي مضحية بأربع سنوات من عمرها في سبيل الوصول إلى حلمها، وتحدثت لنا عن آخر مرة تقدمت لها في عام 2021، هذه الفرصة الأخيرة التي كانت المحطة الأخيرة في حياة نور الفنية.

عيّنتان مما هو واقع تعبران عن معظم الحالات الشابة التي تبحث عن فرص عمل تتناسب ومواهبهم ورغباتهم، وإن تحدثنا عن نسبة العمل كرهاً بوظائف لا تعبر عن الغالبية العظمى من شباب اليوم بما يحمله من آلام اجتماعية ونفسية هو نتيجة موضوعية لنفوذ أصحاب النهج الاقتصادي الذين برسمهم لهذا الاقتصاد المشوّه يخلقون معه سوق عمل لا يقل تشوهاً عنه، فتنشأ خارطة المسارات المهنية الإجبارية لجل القوى العاملة ومنها الشباب الموهوب الذين يخضعون لاتجاهاتها وقوانينها ويبقى الخيار الوحيد أمام هذه المواهب هو أي إكراه تريد، أي طريقة قتل لموهبتك ستختار. فمن أجل أن تستطيع تلبية متطلباتك المعيشية لا بد لك من الاغتراب عن ذاتك والعمل بإحدى الوظائف المفروضة عليك كرها وإجباراً، هذه الوظائف التي لا تلبي بأحسن الأحوال إلا نسبة ضئيلة من الاحتياجات الأساسية، عليك أن تختار العمل بوظائف الدولة التي لا يتعدى الراتب بها حد 150,000 ليرة، إن كنت من أصحاب الشهادات أو كما يصنفون بسلم الأجور درجة أولى، أو العمل بوظائف القطاع الخاص المتميزة بساعات عملها الطويلة وراتبها الخجول أمام حجم التكاليف المعيشية، عليك أن تغترب عن ذاتك وتبتعد عنها كل البعد فقط من أجل أن تؤمن ولو 10% من احتياجاتك، لأن العمل بما تحب ولما تجيد غير وارد وغير متاح بالمطلق. ويبقى المنفذ الوحيد لتمارس ما تحب هو خيالك وأحلامك هذه الأماكن الوحيدة البعيدة عن نفوذ أصحاب المال وتحكمهم، الخيال والتفكير هما منفذاك الوحيدان غير المتاحَين في ظل الضغط المعيشي الذي تتعرض له جراء تشوه السياسات المتبعة وما ينتج عنها من وضع معيشي هو أكثر تشوهاً ومعاناةً.

إن احلامنا وطموحاتنا ورغباتنا وكل ما ينتمي لنا هو رهن إرادة النخبة المتنفذة التي تضحي بكل ما يتعلق بنا، في سبيل زيادة أرباحها وتضخم ثرواتها وتضخم جيوبها المتضخمة أساساً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1129
آخر تعديل على الأربعاء, 19 تموز/يوليو 2023 20:49