الحركة العمّالية الفرنسية وطور إعادة التشكّل
سيباستيان تشوالا سيباستيان تشوالا

الحركة العمّالية الفرنسية وطور إعادة التشكّل

عندما ترشّح مانويل ماكرون للانتخابات الفرنسية في 2017، حاول بأقصى ما يستطيع تجنّب تصنيف نفسه ضمن اليسار واليمين، وحرص على تقديم نفسه كشخص براغماتي وعد بإعادة فرنسا إلى النجاح الاقتصادي. حتّى بعض أجزاء اليسار الفرنسي أعلنت بهجتها بانتصاره.

ترجمة: قاسيون

تنوعت ردود الفعل داخل النقابات الفرنسية، ولم يكن هذا بالأمر المستغرب تبعاً للانقسامات داخل الحركة النقابية الفرنسية الضعيفة أصلاً، والتي يمكن إجمالها باتجاهين: الاتجاه الديمقراطي- الاشتراكي الميّال إلى التفاوض والاتفاق مع أرباب العمل، ويعارض الإضرابات والاحتجاجات والذي يمثله «الاتحاد الديمقراطي للعمّال سي.اف.دي.تي»، والاتجاه المرتبط بالمنهج الشيوعي والذي يميل تقليدياً لتعبئة العمال في الشوارع وتعزيز الصراع الطبقي والسعي الجذري ويمثله «الاتحاد العام للعمل سي.جي.تي».
استغلّ ماكرون منذ البدء «سي.اف.دي.تي» لتأمين شرعيّة برامجه بين العمّال. لكنّ المشكلة التي تجسدت هنا أنّه حتّى نزعة «سي.اف.دي.تي» غير الجذرية والتي تميل للتوافق مع أرباب العمل- وهو الأمر الذي تدخل الدولة كوسيط له في فرنسا- ليس مرحباً به ضمن سياسات ماكرون ومن يمثلهم. وقد تجسّد هذا التعارض بأبهى صوره في الحدّ من السيطرة البرلمانية على السلطة التنفيذية، والمراوغة لتمرير التحركات بأقصر الطرق الممكنة. ولأنّ «سي.اف.دي.تي» استمرّت مع ذلك برفض استخدام الإضرابات لتحقيق أفضليّة للعمّال، ازداد النظر إليها بوصفها صديقاً لأرباب العمل، وليس للعمّال، وازداد انفضاض العمّال عنها.
لكن علينا أن ندرك بأنّ تأثير «سي.اف.دي.تي» الذي تزايد بفترة ما بين العمّال، وهي التي كانت في الأساس منظمة لجمع عمّال الياقات البيضاء والأكاديميين، كان مردّه تراجع وضعف «سي.جي.تي». كانت «سي.جي.تي» نقابة لعمّال المصانع بشكل أساسي، ونتيجة للتغييرات الهيكلية وتراجع التصنيع في فرنسا منذ الستينات فصاعداً، وعدم قدرة النقابة على التأقلم مع تراجع شكل العمل التقليدي في المصانع، فقدت عزيمتها القتالية وقدرتها على تسييس العمال.
لم تتمكن «سي.جي.تي» من جذب العمّال الشباب في قطاع الخدمات من الضواحي الفقيرة، ونتيجة لذلك نشأ جيل من العمّال المهاجرين يحمل «موقفاً عدائياً» تجاه المؤسسات والنقابات، بسبب التهميش في النظام التعليمي، والإذلال اليومي الذي يتعرضون له على أيدي أجهزة القمع التابعة للدولة الفرنسية. بسبب عدم قدرة الحركة النقابية الفرنسية على توجيه طاقة جيل العمّال الشاب، لم يعد مستغرباً أنّ عدد أعضاء النقابات قد ركد عند نسبة 11% من العمّال الفرنسيين.
رغم ذلك، ورداً على الإجراءات التي اتخذتها إدارة ماكرون لتحرير قانون العمل وتعيين سياسيين ليبراليين لوضع البرامج الاقتصادية، احتشد في 2017 عددٌ من الحركات الأهلية اليسارية، ودعا «سي.جي.تي» إلى مسيرات احتجاجية، للوقوف ضدّ تقويض ما بقي من دولة الرفاه. لم تنجح الدعوات بحشد عدد كبير من الناس، وتراجعت بسرعة.

بين الغضب واليسار المتخبط

شهد عام 2018 تطوراً في الحراك الاجتماعي مع تزايد وحشية «الإصلاحات» اليمينيّة للحكومة، ومنح الشركات تخفيضات ضريبية وصلت إلى مليارات اليورو هات، وتعريض أكثر من 100 ألف وظيفة في القطاع العام للخطر. حتّى المستشفيات لم تنج من الاقتطاع في عدد العاملين، وأغلقت الكثير من مراكز الطوارئ. وتم تحويل شركة سكك الحديد لتدار كشركة خاصة، وبدأت التعديلات تطال لوائح القبول الجامعي.
قوبلت هذه الخطط باحتجاج صاخب من الطلاب والنقابات. نظمت احتجاجات في شركة السكك الحديدة لأسابيع، وتمّ احتلال الكثير من حرم الجامعات بشكل مؤقت. بدأت النقابات والحركات الطلابية بالعمل على تعزيز التواصل بين الطلاب وعمّال السكك الحديدية، وإعطاء سلسلة من المحاضرات البديلة. مع ذلك لم تحدث أيّة احتجاجات في المدارس.
في 5 أيار وصلت الاحتجاجات إلى ذروتها عندما شارك 130 ألف شخص بأشكال مختلفة من مقاومة سياسات ماكرون. حاول اليسار تخطي خلافاته، فرغم الخلاف العلني بين الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب «يسار فرنسا» بما يتعلق بالاستراتيجية والهيمنة ضمن «اليسار المناهض لليبرالية»، شارك ممثلو جميع الحركات في الاحتجاجات. ناشدت الحركات الناس للنزول في اليوم التالي، وقد تجمّع عشرات الآلاف بالفعل، وحتّى «سي.جي.تي» بدأت بتخطي عقدها الهيكلية ودعت الناس للوقوف مع الاحتجاجات المدنية. لكن في نهاية المطاف، فشلت التظاهرة بمنع الحكومة من تطبيق سياساتها.

«السترات الصفراء» والانتفاض الجامح

رغم أنّ الحراك الذي ارتبط بشكل وثيق بالنقابات واليسار الأكاديمي الفرنسي قد خسر في سعيه لإذكاء صراع مفتوح مع الحكومة الفرنسية، لم يكن بإمكان أصحاب الراية اليمينية ادعاء الراحة.
بشكل مثير للدهشة، انفجر غضب «السترات الصفراء» في تشرين الثاني 2018. وفي حين أنّ دافعهم الأولي كان التراجع عن زيادة سعر الوقود، فلم يمضِ وقت حتّى تجاوز الأمر هذه المشكلة الفردية. اشترك الجميع، وحتّى طلاب المدارس الذين كانوا قلقين من تعديلات 2018 أسمعوا صوتهم، وحتى المجموعات المهمشة غير المنظمة ذات الميل اليميني- الشعبوي، ساهمت عبر سخطها على وسائل التواصل الاجتماعي في بدء احتجاجات تشرين الثاني 2018.
تعرضت الحركة لقمع شديد في 2019. كانت قيادة مجموعات السترات الصفراء الأولية مكونة بشكل رئيسي من العمّال البيض الذين يعيشون في مناطق سكنية معزولة، ويذهبون للعمل في المناطق المدينية المختلطة. بدأ هؤلاء باختبار القمع المطبق ضدّ العمّال المهاجرين الذين عاشوا في الضواحي الفقيرة، وكان يُنظر إليهم بوصفهم مخربون على مدى عقود.
لكن، وبرغم تعاطف الحركة فوق المتوسط مع اليسار، بقيت الفروقات الثقافية والمكانيّة التي تفصلهم عن المدن الكبرى عائقاً أمام تكوين التزام طويل الأمد ومستدام بقضايا اليسار، الأمر الذي ساعد فيه ضعف النقابات والحركات العمالية العابرة للشرائح.
من ناحية أخرى، أظهرت حركة السترات الصفراء مدى التشرذم داخل أوساط العمّال المعاصرين، الأمر المعيق لجذب العمّال بعيداً عن الدوائر الجديدة للحركات اليمينية المتطرفة. لكنّها من ناحية أخرى أعادت طرح المواقف المناهضة للرأسمالية والصراع الطبقي داخل الأوساط البروليتارية المختلفة، الأمر الذي أعاد تسييس العمال للواجهة.
القضيّة الأخرى الهامّة التي أثارتها الحركة، هي مسألة عنف الشرطة، والتي لم يعد ينظر إليها في المجتمع الفرنسي كحالات فردية، بل بات هناك تحليل هيكلي للنظام الهرمي العنصري الذي يسود مؤسسات قمع الدولة.
ساهم انتشار الوباء في فرنسا بتضخيم المسائل التي وضعت الحركات الاحتجاجية العمالية في الأعوام الأخيرة الأساس لإعادة طرحها للمناقشة. أكّد نظام الرعاية الصحي المثقل بالأعباء، ومعدل الوفيات المفرط في مرافق رعاية المسنين، بإثبات أنّ ما دعا إليه العمّال هو لصالح جميع الفرنسيين.
في أيار 2020 قامت جميع المنظمات الأهلية التقدمية، ومن بينها نقابة «سي.جي.تي» بالانضمام معاً لأوّل مرّة لصياغة مطالب اجتماعيّة للتحوّل الهيكلي الاجتماعي والبيئي.
جلب الحراك منافع سياسية كبرى، مثل: فوز المرشحين اليساريين بالانتخابات المحلية التي عقدت في آذار وحزيران من هذا العام. علينا أن ننتظر لنرى إن كانت ستجري إعادة تشكيل وهيكلة اليسار، والتي تعني بشكل خاص منح صوت للقوى من خارج المؤسسة السياسية، وستتمكن من البناء على المزاج الاجتماعي-البيئي السائد، مع طروحات عمليّة قادرة على استعادة العمّال من أحضان القوى اليمينية والقومية المتطرفة، التي لا تختلف في الجوهر عن القوى الليبرالية السياسية.

بتصرّف عن: No End to the Resistance

معلومات إضافية

العدد رقم:
1030
آخر تعديل على الإثنين, 09 آب/أغسطس 2021 23:01