رد اعتبار الفلسفة وسؤال التحوّل الحضاري مجدداً (2)

رد اعتبار الفلسفة وسؤال التحوّل الحضاري مجدداً (2)

في المادة السابقة وتحت العنوان ذاته حاولنا مجدداً البحث حول كيفية الاستفادة من تاريخ الفلسفة لنقاش الأزمة الحضارية للرأسمالية في نسختها الراهنة، وفي محاولة اقتراحٍ منهجيٍّ يسمح بالمقارنة بين مستويات النشاط تاريخياً، عبر اعتبار المستويات الأعلى تجريداً كاختبارٍ تاريخيٍّ مبكّر لما يمكن أن يتطور في المستويات الأقل تجريداً. وكنا قد استعرضنا بعضاً من تاريخ المذاهب الفلسفية في تطوُّرِها التاريخيّ وحدودها. في هذه المادة سنستكمل المعنى التاريخي-السياسي لهذا الاستعراض.

الفلسفة والهيمنة في المرحلة ما قبل الصعود الاشتراكي-العمالي

بالاستناد إلى بعض مقولات غرامشي في الهيمنة، خلال تاريخ المجتمع الطبقي، وحتى المراحل التي سبقت تصاعد وزن ودور الحركة العمالية والاشتراكية، كانت الهيمنة تتمّ من خلال نموذج القهر المباشر، وبالتالي كانت علاقة فرد-مجتمع تختلف جذرياً بين القوى والطبقات الاجتماعية. فالقوى المقهورة عاشت في ظروفٍ هيمنَ فيها الحرمان المادّي والقهر الجسديّ المباشر، من العبودية والإقطاع والمراحل المبكرة من الرأسمالية، ولاحقاً الإمبريالية في سياستها العدوانية الاستعمارية (إبادة شعوب المستعمرات كأوضح مثال على ذلك) عالمياً وداخل مجتمعاتها. وبالتالي كان التناقض: رأسمال (جماعي)-عمل (جماعي)، يميل لصالح رأس المال. وهذا يعني فلسفياً أنّ علاقة ذات-موضوع، وبشكل خاص عملية التحقق الذاتي، انحصرت لدى القوى المقهورة بمستوى تأكيد الوجود المادي الجسدي-الفيزيولوجي والحفاظ عليه (المأكل، الملبس، المسكن، بمواجهة وقت العمل الطويل والإرهاق الجسدي، والقتل والاعتداء من قبل الطبقات الممسكة بالسلطة، إلخ). ولهذا، لم يكن للفلسفة دور مباشر في الهيمنة بما هي نظرة إلى العالم، إلا عبر نفي أنّ للطبقات المقهورة ذاتٌ خاصّةٌ بها، بل عبر اعتبارها موضوعاتٍ يمكن التصرُّف بها حسب إرادة من يملك قوى الإنتاج. وكانت الذات الساعية للتحقق محصورةً لدى الطبقات الحاكمة وحاشيتها من نخب و«فلاسفة». ولهذا كانت المثالية طاغية على الفلسفة المهيمنة بشكل عام. ولم يكن بَعْدُ للذّات الفلسفية مكانٌ لدى الغالبية العظمى من القوى الاجتماعية المقهورة. ولهذا كان المجتمع في تناقضاته، يعبّر عن الانقسام الفلسفيّ المتطرّف من خلال التقسيم الاجتماعي بين الطبقات، فالذّات المثالية الصافية التي تنفي الموضوع والواقع والتي تمثلت بالطبقات الحاكمة التي لها حصراً دور الذات في التاريخ، وُجِدتْ جنباً إلى جنب مع المادية الصافية التي تنكر وجود العقل-الذات والتي تمثلت بالطبقات المقهورة التي لا عقلَ ولا ذاتَ لها. الذات والموضوع كانا تعبيرين عن قوتين اجتماعيَّتين مختلفتين ومتناقضتين، والمجتمع كان صورة تاريخية اقتصادية-اجتماعية-سياسية عن هذه المثالية المتطرفة في توزيع قواه. وهذا التناسب هو تجريد لا يعبّر بدقّة عن العلاقة بين القوتين الاجتماعيَّتين اللَّتين لم تكونا في انفصال مطلق، وهذا ما سمح في الفلسفة بوجود مذاهب تَقارَبَت فيها الذات والموضوع دون القدرة على التوليف بينهما. ولكنَّ المجتمع بشكل عام كان صورة عن النسخة المتطرفة من المثالية: (ذاتية صافية-موضوعية صافية). طبقة هي الذات وطبقة هي الموضوع.
هذا الواقع، الذي قد يبدو -لضرورة التجريد هنا- اختزالياً إلى حدٍّ ما، تحوّل منذ دخول الطبقات العاملة مسرحَ التاريخ من خلال الفعالية السياسية لأحزابها ونقاباتها وتنظيماتها المعبرة عنها.

الفلسفة والهيمنة في المرحلة ما بعد الصعود الاشتراكي-العمالي

بقيت الفلسفة المثالية مهيمنةً خلال المراحل الأولى من الرأسمالية، ولكن مع كل تصاعد للحركة النقيضة العمالية والاشتراكية، ومع كل توازن في معادلة (رأس المال-عمل)، حاولت المثالية التأقلم مع المساحة التي تأخذها الطبقة العاملة لصالح تحسين شروط وجودها المادية. فوُلِدَت المثالية الموضوعية الجدليّة لدى هيغل، كتعبير عن التقارب بين القوى الاجتماعية، وبالتالي في معادلة رأس المال (الجماعي)-العمل (الجماعي). ولاحقاً، ولدت الماركسية، كحلٍّ ماديٍّ لمثالية هيغل، حيث إنّ الذات جرى توليفها مع الموضوع. ولكن هذا التوليف بقي في نطاق الفلسفة، ولم يتسرّب بَعْدُ إلى الفضاء الاجتماعي-السياسي. إذا عدنا إلى حالة الطبقة العاملة ما قبل الحرب العالمية الثانية، كان حرمان بعض القوى الاجتماعية من حقّ التصويت وعدم التساوي بين الجنسين وبين الأعمار واستغلال عمالة الأطفال وطول ساعات العمل، وغياب الضمانات الاجتماعية، والنمط الأخلاقي «الفيكتوري البروتستنتي» طاغياً في النمط الهَيمَنيّ للرأسمالية.
وما حصل بعد الحرب العالمية الثانية هو تتويجٌ لهذا الصعود التاريخي للقوى الاشتراكية والعمّالية، وكان من المطلوب أن تُجري الرأسمالية مناورتها التاريخية من أجل الحفاظ على الانقسام الطبقي قائماً، واستيعاب الصعود. وبالتالي كان من الضرورة إجراء مناورة تاريخية أمَّنت حدّاً أدنى من التّحسُّن في شروط الحياة المادّية المباشرة. وهذا بدوره اقتضى تعديلاً في النموذج الاجتماعي للهيمنة لصالح رفع مستوى حضور ومساحة الذات كونها موضوعياً ظهرت هذه المرّة من موقع الموضوع. فالطبقات التي كانت ما قبل الحرب العالمية الثانية تسأل عن تحققها الفيزيولوجي-الجسدي المباشر، تملك في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية شروطاً للوجود سمح للحاجات المعنوية والروحية بالظهور. وبالاستناد إلى التراث الفلسفي للمثالية، أيْ في نطاق الحفاظ على انقسام ذات-موضوع، وفرد-مجتمع، الذي هو تعبير عن المجتمع المغترب القائم على التقسيم الاجتماعي للعمل، والعمل المتشيِّئ والبضاعيّ. بالاستناد إلى هذا التراث كان من الضرورة تغيير النموذج المتطرف السابق، القائم على (ذاتية متطرفة-موضوعية متطرفة)، لصالح مذهب أقلَّ تطرفاً. كان هذا المذهب أقلَّ من توليفٍ للذات-الموضوع، حتى ضمن صيغته المثالية، لأنه ونتيجةً لطبيعته الموضوعية الحقيقية، أيْ في كونه موضوعاً ملموساً لملايين البشر لا يقبل تناولَه من زاوية النظر المثالية، بل يحتاج حلّاً مادّياً، ولهذا فمثاليةُ هيغل لم يكن من الممكن قبولُها، مما أدّى إلى التحوّل باتجاه الماركسية في حلّ تناقض (ذات-موضوع)، لأنّه وكما أشرنا في المادة السابقة لمقولة لينين بأنه في هيغل يكمن الكثير من المادّية والقليل من المثالية. ولم يكن أمام القوى المهيمنة إلا أنْ تقوم بتوسيع مساحة الذات في الصيغة الاجتماعية-السياسية لنمط حياتها مع الحفاظ على الانقسام ذات-موضوع قائماً. عند قيامها بذلك نَقلت الفلسفةَ من فضاء الأقلّية والنخبة إلى فضاء المجتمع بشكلٍ عام. فتسرَّب الذات إلى الطبقات المقهورة -ومن موقعها الطبيعي والمنطقي والضروري في تغيير علاقات الإنتاج وتجاوز العمل المغترِب والإنتاج البضاعي- هذا التسرُّب فرضَ بدوره تسرُّبَ الفلسفة إلى نموذج الهيمنة مِن أجل التغطية المثالية على الحاجات الذّاتية التي ظهرتْ نتيجةَ المناورة التي سمّيت بالرَّشوة التاريخيّة، أو الدّولة الكِينزيّة كتسويةٍ تاريخية. ولكن توسيع حضور الذات تطلَّبَ تسيُّد النموذج الذاتي الصافي، ولكن هذه المرّة مِن موقع القوى النقيضة للمثالية في مصالحها التاريخية، بعد أنْ كان من موقع الطبقات التي من مصلحتها الحفاظ على الانقسام. فعاش العالَم في النمط الفردانيّ الاستهلاكيّ كمنوذجٍ وحيد مقبول من قبل القوى المهيمنة لاستيعاب الذات الظاهرة من موقع الموضوع، أيْ الذاتُ الموضوعيّة في تحقُّقها لا الذات المثالية في تحقُّقها. هذا هو أقصى ما يمكن أن تسمح به التّرسانة الفلسفية تاريخياً لتخديم المجتمع المنقسم على نفسه.

خلاصة وتمهيد

إنّ الانتقال نحو نمطٍ من الهيمنة القَهريّة إلى الهيمنة من خلال القبول، حسب مقولات غرامشي، جرى من خلال الاستعانة بمذهب المثالية المتطرِّفة وتحويله إلى جوهر النمط الفردانيّ الاستهلاكيّ من التحقُّق. ولكن هذه المناورة، استناداً إلى المذهب الذاتي المثالي المتطرِّف في تناقضه الداخلي، كانت مؤقتةً كما نرى اليوم. وفي المادة القادمة سنستكمل انهيار تلك المناورة وانفجارَ تناقضِها، ومعانيه الفلسفيّة والسياسيّة، وماذا يعني بالتحديد فراغُ الترسانة الفلسفية من أيِّ عتادٍ فلسفيٍّ مثاليٍّ يسمح بمناورةٍ جديدة على ضوء علاقة ذات-الموضوع، التي نتجت عن المناورة السابقة؟

لقراءة الجزء الثالث من المقال : رد اعتبار الفلسفة وسؤال التحوّل الحضاري مجدداً (3)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1171
آخر تعديل على الإثنين, 29 نيسان/أبريل 2024 12:03