فشل العزل الانفرادي
د. مروة صعب د. مروة صعب

فشل العزل الانفرادي

تقوم فكرة العزل الانفرادي في السجون على إحباط معنوي وترهيب نفسي للسجين أو معاقبته على ارتكاب ما. في السجون «الإسرائيلية»، يكون العزل الانفرادي للترهيب وفرض القوة وكسر عزيمة وصمود المعتقلين. أما في العلوم فقد قامت فكرة العزل الانفرادي على عدة مستويات، عزل العلوم بعضها عن بعض، عزل المجالات العلمية في العلم نفسه، وعزل العلوم عامة عن المجتمع.

مثال على علم النفس السائد

وضع علم النفس في عزل انفرادي على عدة مستويات، عزل «الماضي عن الحاضر»، عزل تفرعات علم النفس بعضها عن بعض، وعزل الأفراد عن بعضهم وعن محيطهم.
سادت فكرة أو حتى قانون في علم النفس السائد بعدم وجوب الاستعانة بنظريات وأبحاث «قديمة» لأنها لم تعد تمثل العصر الذي نعيشه. وضع هذا العرف من قبل الغرب المسيطر على علم النفس لعزل الإنتاج النفسي السوفييتي عن علم النفس السائد ولبسط سيطرة الغرب على علم النفس وتفرعاته. لم ينجح عزل «الماضي عن الحاضر» لأن الإنتاج النفسي السوفييتي كان ضرورةً للحد من القصور الفكري والفلسفي في علم النفس السائد. فقام الغرب بنفسه بفك عزل علم النفس السائد واستعان بجزء من علم النفس السوفييتي.
بموازاة ذلك كان هناك عزل انفرادي على مستوى عزل تفرعات علم النفس بعضها عن بعض. زرع علم النفس السائد فكرة ضرورة فصل تفرعات علم النفس، مثلاً فصل علم النفس التطبيقي عن علم النفس التطوري أو التعليمي أو العلاجي أو باقي التفرعات. ولكل فرع من هؤلاء طرحت نظريات وأبحاث على أنها مميزة عن باقي الفروع. حتى أنه يتم قمع محاولات رفض هذا الفصل. هذا شبيه بفكرة التخصص السائدة من قبل الرأسمالية. وهي تقوم على وجوب التخصص بمهنة أو حرفة واحدة فقط، ما حدّ من القدرات والتطور الذهني والوظيفي للأفراد ورفع البروقراطية في مؤسسات الدولة وحدّ من تطور البلدان بذاتها.
أما العزل الانفرادي الثالث فهو عزل الأفراد عن بعضهم وعن محيطهم. سادت في العقود الماضية نظريات علم النفس التي تدعو الناس إلى الاهتمام بأنفسهم دون غيرهم لكي ينعموا بصحة نفسية وعقلية جيدة. وكان لهذه النظرية العديد من الأبواق التعليمية والبحثية، وقد رُوج لها على منصات التواصل الاجتماعي مع ظهور طفرة «المؤثرين» وظهرت بوضوح أثناء الإجراءات التي اتخذت للحد من انتشار فيروس كورونا في السنوات القليلة الماضية. وهي ظاهرة بشكل كبير ومباشر في الأبحاث النفسية التي تركز على الفروقات الثقافية أو الاجتماعية أو النفسية بين المجتمعات. تركز هذه الأبحاث على أفضلية الأنظمة التي تدعم «النزعة الفردية» عند البشر على الأنظمة التي تدعم «النزعة الجماعية». ويمارس الضغط والقمع في العديد من الأحيان على الباحثين لجعلهم يتقيدون بهذه الثنائية في أبحاثهم وتحليلاتهم.

سقوط فكرة العزل الانفرادي

بعد السابع من تشرين سقطت جميع الدعايات والنظريات والمحاولات الترويجية النفسية الغربية التي حاولت عبر العقود الأخيرة عزل الناس عن بعضهم وتركيز اهتمامهم على أنفسهم فقط. وسقطت جميع الادعاءات من المراكز الجامعية والبحثية النفسية والاجتماعية التي حاولت إيهام الناس بأن علم النفس وعلم الاجتماع منفصلان عن قضايا الناس المصيرية. لأن جميع هذه المحاولات عبر السنين لم تنجح في جعل الناس غير مبالين بما يحدث في العالم حتى لو كان هذا الذي يحدث بعيداً جغرافياً عنهم. وحتى لو كان هذا الاهتمام بسيطاً نسبياً ويقتصر على الشعور بالشفقة والظلم تجاه مجموعة معينة، إلا أنه حتى هذا الاهتمام البسيط حاولت الرأسمالية جاهدة لعقود محوه من وعي البشر.
سقط العزل الانفرادي لأنه يمثل تخلف الرأسمالية وابتعادها عن خط تطور الشعوب وتطور التاريخ. ولأن الرأسمالية، متمثلة في هذا المثال بعلم النفس السائد، حاولت جاهدة نزع صفة الإنسانية عن الإنسان، والتعامل معه على أنه كيان جامد غير متحرك، ودمية تستطيع التلاعب بها بأريحية. ولكن الطبيعة دائماً أقوى مما هو غير طبيعي، ولها دائماً الكلمة الأخيرة في تحديد مسير التاريخ. الطبيعة أننا بشرٌ لسنا فقط متشابهين بل نحن نسخة متكررة عن بعض.
سقط العزل الانفرادي لأن الفكر المثالي لعلم النفس السائد سقط مع سقوط الرأسمالية. ولأن الشعوب أثبتت، حتى لو بقدر متواضع، أنه لا يمكن سلخها عن محيطها. سقط العزل الانفرادي لأن علم النفس السائد والرأسمالية فشلا في تحسين وضع البشر والحد من معاناتهم النفسية والاجتماعية، بل هما قد أدّيا إلى ارتفاع في نسبة الاضطرابات النفسية والعقلية. وجعلت الرأسمالية من الاغتراب صفة للبشر أينما وجدوا. لم تجعلنا مغتربين فقط، بل وأمرتنا بكل وقاحة بغض النظر عن إبادتها الجماعية لإنسانيتنا ولضميرنا ولتعريفنا بحد ذاته.
فاليوم هناك فرصة جدية لإنعاش العلوم وإخراجها من سيطرة الغرب عليها. هناك فرصة جدية تتضخم يومياً بتحرير العلوم من سيطرة الرأسمالية. لأنه لا يمكن للعالم أن يتابع حياته كما كان من بعد طوفان الأقصى، لا يمكن نسيان الإبادة الجماعية التي تقوم بها الرأسمالية للحمنا ودمنا وعقولنا. ولا يمكن لأي شخص انتابه الخوف مما يشاهد أن يعود ويكمل حياته كما كانت. بدأت الرأسمالية بحفر قبرها منذ عدة سنين ولكنها اليوم قامت بتفجير الحفرة لتتسع لإخفاقاتها المتزايدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1151