أيقونات المقاومة.. عز الدين القسام
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

أيقونات المقاومة.. عز الدين القسام

«كنت على معرفة وطيدة بالشيخ عز الدين القسام، عرفته تقياً ورعاً، خطيباً دينياً صالحاً، اجتمعت به في مؤتمرات عدة في حيفا وغيرها، ولم يكن يدور في خلدي أو في خلد غيري، حتى من أصدقائه المقربين، أن هذا الشيخَ المعممَ، إمامَ الجامع، كان يهيئ نفسه لقيادة ثورة مسلحة ضد السلطات البريطانية مباشرة!».

الكلام السابق لأحمد الشقيريفي شهادته عن الشيخ عز الدين القسام، شهادة تبعها كثير من الشهادات، كلها تؤكد شيئاً واحداً أن هذا الشيخ كان مناضلاً بقدر ما كان شيخاً، تثبت ذلك مسيرة حياته الحافلة، وطريقته في النضال.

الواقع صادق وعنيد

ثمة من يحاول خلع النضال الوطني عن شيوخ قادوا الناس ضد المحتل وضد الظلم، ومنهم الشيخ القسام الذي صادف ذكرى استشهاده الأسبوع الماضي، ويكتفون بإظهار لباس المشيخة فقط على هؤلاء. ولكن الوقائع عنيدة وصادقة، فما تثبته تفاصيل الحياة التي عاشها هؤلاء وأعمالهم تثبت العكس، والمقاومة إذ تعرف ذلك، لم يكن اختيارها للتسميات والتكني بها عبثاً.
في أواخر سنة 1934م سأل القسام المصلين من على المنبر: «هل أنتم مسلمون؟» وأجاب: «لا أعتقد»، وسكت قليلاً، ثم تابع كلامه قائلاً: «لأنه لو كنتم مؤمنين لكانت لكم عزة المؤمن، فإذا خرجتم من هذا المسجد وناداكم جندي بريطاني فلا تطيعوا نداءه». كان القسام في كلامه هذا يدعو إلى التمرد، ويحرّض البسطاء من أبناء جلدته على ألّا يسمعوا للعساكر البريطانيين، رداً على البعض الذي روج للاستماع إلى «أولي الأمر» حتى وإن كانوا من المحتلين أو المتعاونين مع الاحتلال.

حياة حافلة

وُلد القسام في بلدة جبلة السورية، وتعلم في كتاتيبها، ثم أكمل تعليمه في الأزهر بمصر، وتتلمذ على يد محمد عبده، عاد الشيخ القسام إلى جبلة بلدته، واستخدم العلوم والمعارف التي حازها، للمطالبة بالمساواة بين الناس، وتوزيع الأراضي على الفلاحين المُستغلين من طرف الإقطاعيين، بعد ملاحظته الظلم الواقع على الفلّاحين، فوقف إلى جانبهم في مواجهة الإقطاعيين، وزار الأهالي، وراح يقنعهم بإرسال أولادهم لتعليمهم القراءة والكتابة ودعا إلى محاربة الأمية والجهل والخرافة، وافتتح مدرسة في جبلة عام 1912م.
وبعد احتلال الأسطول الفرنسي مدينة اللاذقية والساحل السوري في أكتوبر 1918، خرج القسام إلى الشوارع يقود الجماهير في بلدته وفي بعض مدن الساحل؛ وكان من أوائل من حمل السلاح في وجه المحتل. كان لحربه بعدان، بُعْدٌ فكري تنويري واجه به نظام «الباكوات والأفندية « الإقطاعي، وبُعد كفاحي مُسلح لطرد قوات الاحتلال الفرنسي.
لكن قوة الجيش الاستعماري لم تترك له مجالاً، وبعد معركة ميسلون (1920)، انتقل القسام إلى دمشق، ومنها إلى فلسطين، ليواصل فيها مشواره، مُدرساً حيناً ومأذوناً شرعياً حيناً آخر، يحرض الناس على مواجهة الاحتلال وتحرير الأرض والإنسان. وكان جل أتباعه من العمال والفلاحين والباعة الجوالين، أزال عن أكثرهم الأمية بجهده، وثقفهم في المساجد والبيوت والمضافات.

بعد انتقاله إلى فلسطين، قام القسام بجولة في المدن والقرى الفلسطينية، لفهم الواقع ومعرفته، واختيار مكان ملائم للبدء في بناء حركته المقاومة، فاستقر في مدينة حيفا وبدأ بتشكيل حركته على اعتبار أن المدينة كانت ملتقى للتجارة، وملاذاً للعمال والفلاحين المطرودين من أرضهم بسبب سرقتها منهم بالقوة من طرف المستعمرين الصهاينة وبحماية بريطانية صارمة. ويشير تنظيمه للعمال والفلاحين إلى الوعي الثوري الذي كان امتلكه القسام، فلم تكن خُطب القسام مُحفزة الفلسطينيين للجهاد فقط، بل كان ينتقد التقاليد والخرافات في زمانه.
وهو ما أكده محمد عزة دروزة، أحد تلامذة الشهيد القسام في «العُصبة القسامية» قائلاً: «كانت حيفا مركزاً هاماً من مراكز العمال، الذين كان كثير منهم من مُشرّدي مُزارعي القرى التي أجلاهم المستعمر عنها وكان لهؤلاء العمال حَيّ خاص مساكنه من التنك والخشب، فأخذ يظهر من هذه الطبقة رجال جهاد منذ سنة 1930م، إذ أخذت تقع غزوات جهادية على المستوطنين ومستعمراتهم في قضاء حيفا، فُهمَ فيما بعد أنها من جمعيات أو حلقات جهادية، سريّة مُحكمة التشكيل»

«علنية الدعوة، وسرية التنظيم»

أثبتت توجيهات القسام لأتباعه في العصبة بـ «علنية الدعوة، وسرية التنظيم»، أنه سياسي محنك وعسكري مُدرب، إضافة إلى كونه داعية ومعلم مؤثر.
فبعد جهود ثلاث سنوات استطاع القسام تكوين اثنتي عشرة حلقة عسكرية، كل واحدة مكونة من خمسة أفراد، وتعمل منفصلة عن الأخرى، أكثر أعضائها من العمال، ثم زاد عددهم لاحقاً، لتضم تسعة أفراد، يخضعون لدورات تكوين وتدريب مكثفة، فكرية وعسكرية. كانت طريقة عملهم تقوم على مبدأ حرب العصابات، الذي استلهمه القسام من تجربة القائد عبد الكريم الخطابي.
أسس القسام «العصبة القسامية» لمواجهة الاحتلال البريطاني وعصابات المستوطنين الصهاينة، والهجرة الصهيونية التي تطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتستوطنها. واستوحى في بنى تنظيمه تجربة حرب العصابات الشعبية التي وضع أسسها الأمير عبد الكريم الخطابي. وكانت العصبة تضم (مسيحيين ومسلمين) بمذاهبهم المختلفة، يقاومون الغزو الصهيوني والاستعمار البريطاني.

تعلمت منكم.!

خلّف عبد الكريم الخطابي وراءه تراثاً غنياً في حرب العصابات وتنظيم الجيش الشعبي القادر على خوض أطول المعارك بالاعتماد على التمرين الذاتي داخل بيئة حاضنة.
بعد سنوات من وفاة الخطابي، كانت مفاجأة سعيد السبع (أحد مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية) كبيرة حين استمع لجواب الزعيم الصيني ماوتسي تونغ، أثناء استقباله لوفد فلسطيني في بيكين (1971)، فقد سأله عن إستراتيجية عملية ينصح بها الفلسطينيين الذين يخوضون ثورتهم التحريرية في ظروف قاسية، فأجابه ماو تسي، «رفاقي الأعزاء، جئتم تريدون أن أحدثكم عن حرب التحرير الشعبية، في حين أنه يوجد في تاريخكم القريب عبد الكريم الخطابي، الذي هو أحد المصادر الأساسية التي منها تعلمت هذه الحرب».
اتبع الخطابي إستراتيجية تبادل التضامن في إطار وحدة المعركة مع عدو مشترك، تبادل التضامن بين أطراف يمثلون ضحية واحدة للظاهرة نفسها، ظاهرة الاستعمار والإمبريالية، التي يقول عنها الخطابي: «ستنحسر كلما حقق شعب من الشعوب حُلمه في الحرية. في أي مكان تعرض فيه الاستعمار لضربة من الضربات إلا وينعكس صداها إيجابياً في مكان آخر يخوض الشعب فيه المعركة نفسها»، كان هناك فهم مشترك لهذه المعادلة بين القسام والخطابي، معركة التصدي للاستعمار وتحقيق الحرية والكرامة واحدة مهما اختلفت أسماؤه أو البلدان التي يوجد فيها. فالقسام لم يُمَيَّزُ بين الاحتلالين الفرنسي والإنجليزي. بل إنه كان صاحب رؤية ثاقبة، أثبتتها حياته الزاخرة التي واجه فيها ثلاثة أنواع من الاستعمار، الفرنسي في سورية، والبريطاني/الصهيوني المزدوج في فلسطين المحتلة، الإيطالي في ليبيا.

استشهاد الشيخ القسام

استشهد القسام في أحراش «يعْبُد» قرب مدينة جنين، خلال مواجهات مع قوات الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية، يوم 20 نوفمبر 1935، شكل استشهاده مع عدد من رفاقه، كما كانت حياته، لحظة فارقة في النضال الوطني الفلسطيني، وأثراً بالغاً في اندلاع الثورة الكبرى التي استمرت 3 سنوات (1936-1939)، وكانت نقطة تحول كبيرة في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية بعد ذلك.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1150
آخر تعديل على السبت, 02 كانون1/ديسمبر 2023 00:41