ثمة شعبٌ كهذا

ثمة شعبٌ كهذا

لم تعرف الأم بماذا تجيب طفلتها ذات ثلاث السنوات العائدة من الروضة وهي تظهر لأمها «أحسنتِ» كبيرة بالأحمر نالتها من مشرفتها لأنها لوّنت علم فلسطين، عندما سألتها فجأة وبنبرة بريئة: «ماما، كل الأطفال بيموتوا ولّا بس الأطفال الفلسطينيين؟.»

يحتاج المرء لضمير حي ووعي عميق وعقل بارد ليتمكن من الإلمام بالمعركة التي يشهدها العالم أجمع في غزة ويتمكن من قراءة وفهم تداعياتها بشكل صحيح.
الصورة، تفاصيلها كثيرة، رغم مباشرتها الظاهرية، ووضوحها، ولكنها يمكن أن توصف بالمقابل بأنها غير مباشرة، تختزل المشهد والكلام، تعتمد الإيحاء، فتوحي بالذي لا يقال ولكنه يُفهم، كما لو أنه قيل.. الإيحاء الذي تملكه الصورة، يمكن أن يغير ارتباط الأشياء ببعضها، يفكك روابط الواقع القائمة ويعيد تركيبها.
في الصور القادمة من غزة ثمة الكثير، ملحمة تحمل عيون أبطالها من الأطفال، ثقة شرسة تكاد تثب من الصورة لتجرح عين من يراها. وموت وعنف لا يمكن أن يتصوره أو يتحمله ضمير إنسان حي. فما يرتكبه الصهاينة من مجازر فاق كل تصور ولم يدع مجالاً حتى لمناصريهم والمدافعين عنهم أن يستمروا في دفاعهم.

اكذب ثم اكذب.. لم تعد تنفع

ثمة من يحاول وضع الناس في حالة من اليأس والإحباط. تختلف وسائل الإعلام في نقلها للحدث، فبعضها تركز على نقل صور المجازر وبشاعتها، وأخرى تحاول إلقاء اللوم على المقاومة فيما يحدث، متجاهلة أن من يرتكب المجازر هم الصهاينة، وذلك للتغطية على فشلهم المستمر، فشلهم العسكري والسياسي والاستخباراتي، وسقوطهم الأخلاقي والإنساني. ما جرى في السابع من تشرين الأول الماضي تم وانتهى وأثبت أن جيش العدو لا يستطيع حماية الكيان. وهو ما يفهمه الصهاينة جيداً، وما الاستخدام الوحشي للقوة إلا خوفهم من تداعيات ما حدث.
يدفع الفلسطينيون ثمن انتصارهم بالدم، بينما يدفع الأمريكيون «والإسرائيليون» الثمن سياسياً، فبالإضافة إلى حلفائهم، وداخل الكيان، تسببوا في استثارة الرغبة الشعبية في التغيير السياسي في أماكن أخرى. لم يفعل التجرد من أخلاقيات القتال سوى أن جعلهم يوقعون مبكراً على شهادة هزيمتهم. وتحويل الصحوة السياسية الفردية إلى ظاهرة جماهيرية، بينما على العكس أثبتت المقاومة ما لديها من أخلاق القتال، وسجل التاريخ لها تقديم الطعام والدواء والرعاية لأسراها. الصورة قالت الحقيقة هذه المرة، وأثبتت تقدم المقاومة في حاضنتها واتساعها، بينما صيغة «اكذب ثم اكذب..» لم تعد تنفع.
الأم أم في كل مكان وزمان، لا تملك الأم إلا دموعها أمام سؤال طفلتها وأمام موت أطفالها في فلسطين. لكن ثمة شعب تزغرد أمهاته حين تودع أطفالها. شعب كهذا لا يمكن أن يهزم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1149
آخر تعديل على الثلاثاء, 21 تشرين2/نوفمبر 2023 22:05