سطوع غرامشي وتجفيف المادة البشرية وما بعد المجتمع

سطوع غرامشي وتجفيف المادة البشرية وما بعد المجتمع

قد يعتبر البعض، ونقصد أهل «اليسار» تحديداً، قضية تفتيت وتذرير المجتمع مجرد خلاصات مبالغ بها معتمدة لتبرير طرح نظري «ثوري» على الرغم من الكثير من المعطيات المباشرة حول التفتيت والتفكيك وضرب البنى والمؤسسات السياسية والاجتماعية الحديثة منها والمتكونة تاريخياً. وفي هذه المادة سوف نعود إلى غرامشي لنقاش هذه القضية من أحد جوانبها المباشرة ألا وهي المكون البشري.

موقف «اليسار المعادي للمؤامرة»

يعتمد بعض «اليسار» اليوم موقفاً معادياً «للـمبالغة» جرت العادة على تسميته بالموقف المعادي لـ«نظرية المؤامرة». ورفض المبالغة مقصود به معاداة كل تأويل للمخطط لدى النخبة المالية الأكثر رجعية عالمياً. وبرفضهم هذا يسخرون قسماً حاسماً من فهم المرحلة وضرورتها، وبالتالي يتموضعون بشكل إما ناقص، وغالباً خاطئ، يجعلهم يقعون بكل سهولة في خندق العدو نفسه صاحب المخطط الذين قاموا بنفيه. ولأن هذا «اليسار» يعود بشكل مدرسي جامد وانتقائي إلى الكلاسيكيات الثورية، من الضروري أن نستعين بهذه الكلاسيكيات التي يتأبط بها هذا الموقف «غير المبالغ». وهنا سنعود إلى غرامشي في نقاشه ديناميات حركة المجتمع.

غرامشي رأس حربة مواجهة المرحلة

تكمن أهمية غرامشي تحديداً في كونه كتب بلغة الحركة، ومن هنا الحياة في نصه، أو بالأحرى الانتقالات بين مستويات التحليل. وهذه الانتقالات هي محاولة النظرية أن تلتقط التعقيد والتداخل بين مستويات الواقع. ولهذا يُعتبر نص غرامشي صعباً حسب البعض، وهذا يعود لحالة العقل المتلقي لهذا النص، فهذا العقل غالباً ما يكون متعوداً على تحليل يغلب عليه المنهج الخطي، أو قل متأثراً بالمنهج الخطي أكثر من كونه جدلياً. واليوم، يكشف الواقع عن جوهره وضرورته الجدلية بالذات، بسبب حدة تناقضاته وتطورها. وهذا الجوهر هو نفسه الحركة التي حاول غرامشي بشكل خاص التقاطها في نصه وتنظيره، ونقصد بشكل خاص انكشاف انعقاد البنية الفوقية على البنية التحتية على عكس الفصل الاعتباطي بينهما في أغلب التحليلات التي تقول عن نفسها ماركسية ومادية تاريخية. هذا هو سبب أن يكون غرامشي «نجم» المرحلة الساطع بامتياز. وهذا موضوع آخر لنا عودة إليه لاحقاً.

التفتيت والتذرير

عودة إلى قضية التفتيت والتذرير، تتمثّل المسألة بضرب مجمل البنى السياسية والأهلية وأي شكل من الاجتماع والانتظام الذي يتجاوز الفرد المفرد. وهذا التفتيت مدعوم بترسانة منها الأيديولوجي والثقافي القيمي، ومنها الممارسي، وذلك إما موروث من تركة الليبرالية الفردانية الغارق في حدود الفرد المفرد، وإما مدفوع إلى أشكال تطرفية حادة لضرب الحقيقة والبدهيات تلغي عقل الفرد نفسه عبر ضرب قاعدة تشكل هذا العقل، أي انتماءه إلى هذا العالم من خلال تموضعه في سردية واقعية لها مستقبل، وكيف تتكون هذه السردية في واقع يجري نفي مستقبله وبالتالي نفي دافعيته وتنهار بنيته الموحدة؟ إذاً في جوهر التفتيت والتذرير ليس فقط تفتيت ما هو موجود، بل تجفيف مادة تشكل أي بنية مستقبلاً. ومن هنا خطورة هذا المسار للحضارة المنهارة التي نحتاج ممارسة نقيضة لوقفه من موقع حضارة نقيضة ممارسية، وليس فقط قيمية فوقية لها طابع محافظ. وغرامشي ناقض هذا التجفيف بشكل ما.

«نظرية النسب الثابتة»

في دفاتر السجن يحاجج غرامشي في مسألة النسب البشرية الضرورية لتشكل البنى الاجتماعية- السياسية، ويعود غرامشي بذلك إلى أفكار آخرين ناقشوا هذه المسألة مثل «بنتاليوني» في كتابه «مبادئ الاقتصاد البحت»، فيقول «ويمكن استخدام هذه النظرية في إيضاح الكثير من القضايا، التي يعنى بها علم المنظمات (دراسة الجهاز الإداري والتركيب السكاني...) وإظهار إمكانية تعميم تطبيقها. وكذلك إيضاح القضايا التي تهم علم السياسة العام (تحليلات الأوضاع أو علاقات القوة وقضية المثقفين). وبالطبع علينا أن نتذكر دائماً أن اللجوء إلى نظرية النسب الثابتة ليس له إلا قيمة تخطيطية ومجازية. أي إنه لا يمكن تطبيقها بصورة ميكانيكية، لأن العنصر الكيفي في الجماعات البشرية (أو عنصر القدرة التكتيكية والفكرية للأفراد المكونين لها) هو العنصر الغالب. وهو عنصر لا يمكن قياسه رياضياً، ولهذا يمكننا أن نقول إن لكل جماعة بشرية مبدأ النسب الثابتة المثلى الخاص بها. وعلم المنظمات بصفة خاصة يمكنه الانتفاع بهذه النظرية، وهذا يتضح في حالة الجيش، غير أن لكل شكل من أشكال المجتمع نمط الجيش الخاص به، ولكل نمط من الجيوش مبدأ النسب الثابتة الخاص به التي تتغير أيضاً من سلاح إلى آخر، من فيلق إلى آخر، من قوات متخصصة إلى أخرى... وأي تغيير في جزء واحد يقتضي توازناً جديداً مع الكل. «ويمكننا أن نرى هذه النظرية في التطبيق سياسياً في الأحزاب والنقابات والمصانع، وأن نرى أيضاً كيف أن لكل جماعة اجتماعية قانونها الخاص بالنسب الثابتة التي تختلف تبعاً لمستوى ثقافتها واستقلالها الفكري وروح المبادرة والإحساس بالمسؤولية لديها وتبعاً لدرجة انضباط أكثر أعضائها تخلفاً وهامشية» (انتهى الاقتباس من غرامشي).

خلاصة

هكذا نرى أن ضرب تشكل نسب محددة ضرورية ينفي إمكانية تشكّل الجماعة المحددة المقصودة. وهنا يشير غرامشي بالتحديد إلى قضايا الدافعية وروح المبادرة والإحساس بالمسؤولية. إذاً، وفي سياق تاريخي كالذي نحن فيه يجري فيه تجفيف هذه العناصر، وبالتالي يجري تجفيف إمكانية تشكل النسب الثابتة ليس فقط لجماعة معينة، بل للمجتمع بكامله، والذهاب إلى حالة «ما بعد المجتمع». فالدافعية العقلية والإحساس بالمسؤولية والانضباط والمبادرة يجري تدميرها كما أشرنا في غير مكان في هذه المادة وفي مواد سابقة عديدة حول تدمير العقل. أين تكمن المبالغة في هذا النقاش؟ وهنا نجد عند غرامشي بالتحديد مادة مباشرة تصب في صالح هذا الموقف، والذي لا نعتقد أن هذا «اليسار المتواضع» وغير المبالغ يعرف شيئاً عن هكذا نقاش «كلاسيكي»! بينما عدونا الطبقي يعلم الكثير عن غرامشي. وغرامشي نفسه أعلن يومها أن العدو سيتعلم الكثير مما نقوله (ويقصد غرامشي ما قاله هو نفسه)، ولكن يعتبر غرامشي أن هذا لا يمنعنا من قول ما يجب قوله، حتى لو استفاد منه العدو. ولكن المقتل هو ألّا نتعلم نحن من هكذا منتج نحن كثوريين، لا بل نجد أن هناك نكراناً له وجهلاً به. وهذه مجرد إطلالة على نقاش مستفيض لغرامشي لا يزال علينا أن نضعه في سياق صراعنا الراهن، ونستكمل فيضه التاريخي. من هنا كان الموقف أن غرامشي يجب أن يستكمل سطوعه في المرحلة التاريخية الراهنة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1136