القاتل الحقيقي!!

القاتل الحقيقي!!

يكاد لا يمر يوم لا تنقل فيه الأنباء خبراً أو أكثر عن جريمة وقعت هنا أو هناك في مختلف المحافظات السورية، وتتزايد وتيرة هذه الأخبار شيئاً فشيئاً وصلت إلى درجة لافتة ومخيفة في مجتمع عانى ما عاناه من ويلات أزمة وحرب كارثية استمرت إلى سنوات وكادت من فرط شدتها أن تكون من أسوأ الكوارث في الوقت المعاصر.

عناوين مثيرة

تتصدر العناوين المثيرة الواجهة الإعلامية «رجل يقتل طفليه ثم ينتحر- رجل يحرق امرأة بعد سرقة منزلها– قتل زوجته- قتل– أطفال– أشلاء.. إلخ». عناوين تقشعر لها الأبدان وإحصائيات مرعبة، تتناقلها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المهتمة بالشأن السوري. وسواء كانت في الداخل أو الخارج، تتفق هذه الوسائل غالباً في الصيغ الموضوعة لمعالجة مسألة الجريمة، والتي تتسم بأنها وصفية إحصائية لا تغوص في أعماق المشكلة ولا تسلط الضوء على الأسباب الفعلية، لأنها ببساطة أن فعلت ذلك فهي مضطرة للمساس بالطبقة التي تشغّل هذه الوسائل!

الحكمة في عيون التراث

يفقد أفراد المجتمع المثقلون بالهموم والذين ما زالوا تحت تأثير الصدمة، القدرة على التحليل وإيجاد الأسباب الحقيقية للمشكلات التي يعانونها، والعجز عن النفاذ إلى مختلف مستويات وأبعاد الظاهرة. وقد يبرر ذلك للعامة من الناس، ولكنه بالتأكيد لا يبرر للمثقفين والباحثين ولا لبعض القوى السياسية.. إلخ.

ثمة نوع من الباحثين الذين يلقون باللوم في أي مشكلة على المجتمع وأخلاق الناس، وهم إما متواطئون مع الطبقة المسيطرة ومبررين أفعالَها، هدفهم توجيه النار باتجاه آخر بعيداً عن السبب والمسبب الحقيقي، وإما في أحسن الأحوال يعانون من قصور معرفي ناتج عن عدم القدرة على قراءة الوضع المستجد والاعتماد في التحليل على رؤىً سابقة لم تعد كافية لفهم الواقع الراهن. توجد أكوام من الدراسات والأبحاث التي تعزز هذا الاتجاه وتدعمه، بينما يتطلب الوضع المستجد قراءة مستجدة.

في المقابل يحتوي التراث على نماذج مغايرة لها قيمتها المعرفية، وتلقى قبولاً اجتماعياً عند عامة الناس، لأنها تلمس جراحهم، ويمكن هنا الإشارة إلى أحد أشهر النماذج التراثية، في قول أبي ذر الغفاري: «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!»

«نحن نستحق ذلك»!!

يعزو كثيرون انتشار ظاهرة الجريمة وتعدد أنواعها لأسباب متعددة، فيربطونها بنتائج الحرب وزوال هيبة الموت واعتياد الناس على العنف والعنف المضاد وتبلد الأحاسيس والمشاعر، وانخفاض المستوى التعليمي والحالة الاجتماعية والثقافية.. إلخ، لتتوج هذه الأسباب بموضوعة «الأخلاق وفسادها» والمشكلة هنا أنه يجري تداول هذه الفكرة من قبل البسطاء من الناس، والذين هم في الواقع (الضحية)، وتنتشر تعابير من مثل «نحن نستحق ذلك»، وكل ما يجري سببه «نفوسنا الضعيفة.. وشعب ما بيجي إلا بـ..» على ألسنتهم في مفارقة غرائبية.

إن كل الأسباب الواردة أعلاه صحيحة ولكنها ليست السبب الأساسي، فالوضع الاقتصادي السيء والذي يسوء بشكل مضطرد والضغوطات الناجمة عنه هو الذي أدى إلى فساد الأخلاق ونشر اللامبالاة والخوف من المستقبل والحياة، وبالتالي ذهب بالناس إلى قلق وجودي وحالة توتر شديدة. يصبح انحلال الأخلاق عاملاً ثانوياً لأن المجرم الحقيقي هنا هو الفقر والوصول إلى حافة الجوع. يعاني الناس من نتائج الصدمة الاقتصادية التي تجتاح البلاد، موتاً بطيئاً وكسراً لإرادة الناس ومناعتها، تتخفى وراءه معالم الجريمة الكبرى والمتمثلة بنهب البلاد والعباد على يد قلة قليلة من الفاسدين والمستفيدين ومن مواقع سيطرتهم من معاناة البلاد.

«الميت ما يشيل ميت»!!

يعمل أفراد العائلة، رجلاً وامرأة وينضم إليهم أحياناً الأولاد، ليتمكنوا من الاستمرار في البقاء ولكن مهما حاولوا جاهدين فإنهم في حالة دائمة من العوز المادي والسبب بسيط، فمهما كان نوع العمل أو القطاع الذي يعملون به بأجور ثابتة وسوق متحرك وأسعار ملتهبة فلن يكفيهم.

تشير البحوث إلى أن الفقر هو الوقود المحرك للعنف بأنواعه سواء منها الاجتماعي أو الأسري، وتعاني منه بالدرجة الأولى الأسر الفقيرة التي وصل فقرها إلى مستويات فظيعة ومأساوية لا توصف.
ثمة شعور مرعب يعانيه المرء بانعدام الإحساس بالأمن الشخصي، يشعر المواطنون بثقله، وما يترتب على ذلك لاحقاَ من سلوكيات واجبة مثل «مواجهة النزاعات، أو حماية عائلاتهم بشكل ذاتي، دون الرجوع إلى سلطات إنفاذ القانون، في بلد لا ينفذ فيه القانون أصلاً! وفي ظل غياب شبه تام لجهاز الدولة في رعاية المجتمع وتنظيمه، فتنتقل في كثير من الأحيان عدوى العنف من الحرب إلى الحياة العادية.

تعزز ظروف الحرب حالة التفكك الاجتماعي للبنى الاجتماعية الأساسية الناظمة لحياة الناس والتي يعتمد عليها الفرد، ومنها الأسرة. يجري تغيّر على نظرة بعض الأشخاص إلى المعايير الأخلاقية التي توافق عليها المجتمع، وما يترتب عليها من أفعال فتكاد تخرج بها في نظر هؤلاء عن دائرة الخطأ إلى دائرة الأفعال المشروعة.

في الأسر الفقيرة أدى عدم قدرة الأهل على تلبية كافة احتياجات أبنائهم، إلى فقدان الحد الأدنى من التأثير، وغالباً ما عانى أبناء الأزمة من الجيل الجديد التعب والضيق المادي لعدم قدرة الأسرة على تلبية احتياجاتهم، خاصة وأن هؤلاء لم يعيشوا أيامهم إلا ضمن نطاق الأزمة، لذلك تجتاحهم حالة من الشعور بالانهزام، وأحياناً التمرد. إضافة إلى ما يترتب على الحروب من ظهور اضطرابات عصبية ونفسية لدى كثير من الأفراد وخاصة الشباب.

يميل معدل الإجرام إلى الارتفاع، بعد انطفاء موجة الحرب بشكلها التقليدي، وغالباً ما يكون الحديث هنا عن الجرائم الفردية التي تبدأ من المشكلات الصغيرة والشجارات على أتفه الأسباب إلى القتل والسرقة السلب وتتجاوزها أحياناً إلى جرائم كبرى مثل المخدرات والإتجار بالأعضاء وحتى الإجرام بحق الطبيعة... إلخ، نتيجة لعدة أسباب، أهمها تدهور اقتصاد البلاد، وتوقف الإنتاج، وازدياد التفاوت الطبقي، فهناك القلة التي تجني ثمرة الحرب، أما الكثرة تعاني من الفقر، والنتائج المترتبة عليه.

شعب يستحق الحياة

تعددت آليات الدفاع التي يتخذها المجتمع ضد العدو الطبقي والاجتماعي، فرغم الحالة المزرية التي وصلت إليها حال الناس، مازال هناك الحد الأدنى من بقايا التعاضد الاجتماعي وهذا ما أثبته الشعب السوري أثناء حالة الزلزال الذي أصاب شمال سورية. وهذا ما سيثبتونه لاحقاً لأن «دوام الحال من المحال» كما يقول المثل، والشعب السوري شعبٌ حي يستحق الحياة ويستحق ما هو أفضل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135