مجدداً عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (5)

مجدداً عن الأزمة الحضارية وتجاوز الرأسمالية (5)

في المواد السابقة حاولنا التأكيد على أن الأزمة التي قادت لها الرأسمالية في نسختها الراهنة كنتيجة منطقية لقوانين عمل الرأسمالية، هي ازمة نمط حياة شامل يعكس علاقة الإنسان بالعام (وضمنا الطبيعة) وموقفه منه ومن نفسه (وغيره) ككائن. هي أزمة حضارة. والرد عليها يكون بتصور وبناء حضارة نقيضة لأسس الرأسمالية كنمط إنتاج سلعي- استهلاكي، والمؤسس للتغريب كجوهر الأزمة الحضارية وتداعياتها الاجتماعية والعقلية- النفسية والطبيعية. وهذا ما ليس مطروحاً اليوم كمشروع أممي، كرد على «عالمية الرأسمالية». وهنا نحاول تلمس بعض عناوين الأزمة ونقيضها في طروحات الجدلية وفي الفن، وتحديداً المسرحي والشاعر بيرتولد بريخت.

الجدل: بين الكينونة والصيرورة

إن نقاش المشروع الحضاري النقيض (وأزمة المشروع القائم في آن) يستدعي إعادة الاعتبار للمشروع الإنساني الذي حمله ليس ماركس «الاقتصادي» فقط، بل كفيلسوف تحرير الإنسان. ولا نبالغ إن قلنا: إننا بحاجة لإعادة قراءة هيغل في عين ماركس، بما يتناسب مع متطلبات اللحظة، أي استكمال اكتشاف ماركس في هيغل، وأيضاً استكمال اكتشاف هيغل في ماركس، بما يسمح بتثبيت معالم المشروع الحضاري في بعدها الفلسفي، وتحديدا قراءة حركة وقوانين الذات من موقع ماركس، والدفع إلى الواجهة بالمشروع الإنساني في قلب الماركسية، حول تجاوز الاغتراب، وفهم الأزمة الحضارية والبديل عنها في هذا السياق.
لا يمكن تناول سؤال الأزمة الحضارية ونتيجتها الراهنة التي تدفع نحو البربرية، من جهة، ومن جهة أخرى، قضية «وجود الإنسان» المتجاوز للتغريب، دون المفاهيم المركزية للجدلية (لدى ماركس وهيغل). ونقصد بذلك أولا: قضية الكينونة والصيرورة. وثانيا: قضية التناقض كأساس لعملية التطور. وإذا أخذنا قضية الكينونة والصيرورة، فإن الإنسان في حضارة الرأسمالية في مرحلتها الراهنة المليئة بمقولات الـ«لا مستقبل» ونفي إمكانية العالم البديل، وإغراق العقل الإنساني بكل العدمية والديستوبيا، مقطوع عن الصيرورة ليس فقط بفعل تعطل النمط الرأسمالي وتصوراته عن المستقبل الذي كان مملوءاً بمقولات «تحقيق الذات الفردية» (وفي جوهرها الاستهلاك)، بل أيضاً بفعل غياب المشروع الذي يطرح عملياً كيفية تحقيق الذات الفردية، وحاجاتها التي تطورت في العقود الماضية، ولا يمكن استكمال مواجهة الامبريالية واستبدال الرأسمالية دون تحقيق هذه الحاجات، في نمط حياة نقيض يقوم على دور الإنسان الفرد كمشارك في مصير وحياة المجتمع ككل، كإنسان سياسي وعالم وفنان ومنتج ضروري للآخرين ولنفسه، متجاوزاً الاستلاب السلعي والاغتراب المتأسس عليه.
والانقطاع عن الصيرورة، يعني تعطل الكينونة. وهذا هو جوهر البربرية بالتحديد، أي قتل كينونة الإنسان. وبالتالي فإن أول خلاصة هي: أن يكون الإنسان هو أن يصير. هذه الخلاصة يمكن أن نجدها في الأدبيات المنسية ليس منذ قرون، بل منذ عقود قليلة، وحتى سنين قليلة ماضية في أدبيات حديثة لباحثين حاولوا نمذجة قضية الجدل. ومنهم من ثبت قضية الكينونة كصيرورة في الفن والعلم بالتحديد، فكلاهما، كنشاط مبدع يقوم على تجاوز العالم كما هو نحو عالم بديل. وهذه هي حالة العقل العامة، أي حالة الإنسان. وخصوصاً عندما يكون العالم اليوم مضاداً للإنسان بهذه الحدة. فما يبقى للكينونة دون الصيرورة إلا العدم.
وهنا المسألة الثانية المركزية للجدل. فالصيرورة كخلق للجديد لا يمكن أن تفهم دون حل التناقضات الراهنة في وجود الإنسان. وهذه التناقضات تطورت في صلب نمط الحياة الفرداني الليبرالي، ولا يمكن نكران هذا التطور والعودة إلى ما قبل. ولهذا كان التأكيد دائماً على ضرورة أن يُجيب المشروع النقيض على هذه الحاجات الجديدة، أي تحقيق قيمة الإنسان التي تحاول البربرية توظيفها، كما كانت الفاشية تفعل، في صالح أهداف تدمير المشروع «الجماعي» مهما كان شكله، دولة، أو مجتمعات، أو عائلة، أو أي بناء مؤسسي. ما يبقى بالنسبة للبربرية هو العالم- الفرد. وإن لم يطرح المشروع النقيض برنامجاً عملياً لتحقيق الحضارة النقيضة، واستيعاب كل ما تم إنتاجه ضمن الرأسمالية، فستصل القوى التي تحاول الدفاع عن الحياة إلى هوامش تاريخية ضمنية فيها، لا بل هي ستساهم في إبقاء الزخم لصالح المسار البربري. ولهذا، يجب علينا نحن بالذات ألا نطرب للـ «تفاؤل» العام حول تحول ميزان القوى الذي نلمسه اليوم، الذي ما أن يصل الجميع إليه فيصير حالة كابحة، بعد أن كان وسيبقى لفترة حالة دافعة ضرورية. وبالتالي، يجب أن يبقى سلاح النقد الجذري في صلب نقاش بناء العالم البديل.

عن «رَجُل» بريخت بين الكينونة والصيرورة

يقول بعض النقاد: إن بيرتولد بريخت في مسرحيته «رَجُل برَجُل» التي تعود إلى العقد الثالث من القرن الماضي (في العام 1926) تنبأ بمصير صراع الإنسان ضمن معادلة الكينونة والصيرورة في ظروف مرحلته (التحضير للحرب العالمية الثانية وصعود الفاشية). في المسرحية يعالج بريخت مسألة تفكيك وإعادة تركيب الإنسان. قصة رجل فرضت عليه دورية عسكرية من ثلاثة عناصر الانضمام إليها لتعويض خسارة رابع عنصر منها. فكان عليه إما أن يختار القبول، وبالتالي أن يخسر نفسه روحيا ومعنوياً، أي كينونته كإنسان. وبين أن يخسرها مادياً إذا ما رفض العرض فيتم رميه بالرصاص. وبعد أن قبل المصير الأول يسير بنا بريخت في مسار خسارة الكينونة، حيث لا يعود يربط ذات الإنسان بذاته القديمة أي شيء، فلا يعود يتعرف عليها، ويخسر حتى ذاكرته عنها. «ما الذي يبقى من الإنسان عندما نجرده من تاريخه وعائلته بل وحتى اسمه؟» وهنا يتم تجريد الإنسان من ذاته لصالح القائم، وبشكل أدق: لصالح تثبيته. وحينها يغرق الإنسان كما شخصية «غالي لي» في مأساوية إرضاء الشهوات التي تملأ الأزمة. فهو في قبوله بدور يقدمه هذا القائم، لم يعد قادراً على أن يصير، فخسر كيانه لصالح نمط الحياة القائم. وهنا تقع مأساة وتراجيديا الإنسان الراهن كما رجل بريخت.

رجل بريخت اليوم

إن إنسان المرحلة، إما أن يقبل بالمسار المفروض، ومحاولة إرضاء حاجاته ضمن ما تعرضه الحضارة المأزومة للرأسمالية من أشكال هذا الإرضاء، أو للدقة عدم الإرضاء وتعطل العملية الراهن، وبالتالي يخسر كينونته لصالحها، وهنا تأسيس البربرية. وإما ألّا يقبل، فيواجه «الموت وجها لوجه لغاية خلق الحياة، لا أن يزيح وجهه جانباً» كما يقول هيغل، وهذا ما لم يقبله رجل بريخت. نحن اليوم في مرحلة جعلت فعلاً سؤال جوهر الإنسان واضحاً ومتبلوراً أمام العموم (كما كل الأسئلة في التاريخ التي صارت اليوم على الطاولة). ومن هنا كونه موضوعاً على جدول أعمال التاريخ وقواه الحية. ومن هنا ضرورة تعظيم المضمون الإنساني للمشروع «الأممي» الحضاري البديل على هذه القاعدة من جدلية الكينونة- الصيرورة. ولهذا فإن الطروحات الراهنة حول مواجهة التدمير الثقافي للحضارة المأزومة على أهمية ما تحمله من مضامين عامة جداً حول «الثقافة الوطنية والمحلية والتاريخية»، فليست لحد الآن إلّا إعلاناً لضرورة المشروع وأهميته، وتحتاج إلى تعميقها. أي بناء قاعدة مادية بديلة لنمط حياة يتجاوز الاستلاب القائم على الانتاج البضاعي. وقد لا يُبنى هذا البديل من نمط الحياة اللااستهلاكي دفعة واحدة، وهذا طبيعي ومفهوم. ولكن يمكن البدء في «تجريبه» كنواة تتوسع. هذا كان اقتراحاً لعديد من الاقتصاديين- السياسيين الماركسيين حول بناء قاعدة تحصين أولية، وميدان اختبار وتطبيق لبناء الانسان والواقع الجديد المضاد للاستلاب. وهذا التجريب ضمن بنى اجتماعية حصل في غير مرة في التجارب الاشتراكية، وإن كان وقتها بظروف تلك التجارب. ألم تكن الكولخوزات والسوفخوزات لها هذا الطابع للعلاقات «الجديدة» دون أن يكون للمجتمع ككل مساراً «غير بضاعي»؟! ألم تكن تجارب «السبوت الشيوعية» تحمل في طياتها جنين «الإنسان الضروري»؟ أليست المستويات الفنية والسياسية والعلمية والعسكرية في هذه التجارب هي تعبير عن بُنى، هي أيضاً محدودة المساحة عن «البطولة والإبداع» الإنسانيين؟
حتى لا نطيل في هذه السلسلة، يمكن أن نختم بأن تعميق وتجذير البحث في الحضارة البديلة ضرورة، ويجب أن يخاض هذا النقاش في تفاصيله العملية البرنامجية. وإلا فإن زخم طاقة البربرية سيزيد عبر إعادة تجديد نمط الحياة المأزوم، الذي هو المهيمن كقاعدة ممارسية محددة لعلاقة الفرد بالعالم. ونقول بأنه المهيمن، لأنه توجد بنى علمية وسياسية وفنية تحمل نمطا نقيضاً للحياة، ولكن ليس لها الهيمنة، أي في كونها لا تحكم كيف يعيش الاغلبية من هذا المجتمع الصاعد أو ذاك، ولكن ماذا عن المليارات حول العالم الذين يشكلون مادة البربرية الجاهزة، والتي يجب أن تجد قبلتها الأممية في مشروع الدول الصاعدة؟ هذه الأسئلة يجب أن تتقدم مع تقدم زخم الصراع واحتدامه وتجري مأسستها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1117
آخر تعديل على الخميس, 13 نيسان/أبريل 2023 11:03