عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (3)

عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (3)

في المادتين السابقتين حاولنا أن نعيد إجمال إحداثيات عامة للأزمة والتناقض ما بين البنية الفوقية والتحتية والتي تؤدي إلى تنافر حاد بينهما يعكس حجم التناقض الموضوعي في البنية التحتية (أي التناقض بين التطور والحفاظ على قوى الإنتاج من جهة، وبين علاقات الإنتاج التدميرية لهذه القوى من جهة أخرى) والتي تعجز عن أن تلعب البنية دور المموّه أو المحافظ عليه، بعد أن كانت في العقود الماضية تلعب دور المستوعب له من خلال السردية والممارسة الليبرالية وما تحمله من نمط حياة فرداني. وفي هذه المادة سنحاول توسيع فكرة مرت سابقاً حول ما يمكن أن تمدّنا به أزمة العلم، التي هي شكل مكثف ومبكر من أزمة البنية الفوقية والتي صارت اليوم أزمة عامة للوعي بشكل عام، وتحدد تمظهر إفلاس العقل المهيمن في آن.

عن أزمة العلم مجدداً، نقاط منهجية

للتكثيف، عالج الكثير من الباحثين والمفكرين من موقع الماركسية ومن موقع «الفكر النقدي- الاجتماعي» (التقدمي الإنساني) أزمة العلم، ويمكن الخروج بنقاط عامة. إن العلم يعبر كما كل فضاء الوعي والفكر في المجتمع الطبقي عن أزمة ازدواجية الذات- المادة، الممارسة- الوعي، العقل- الجسد. وهذه الازدواجية لا تظهر فقط على شكل أزمة داخلية في العلم، بل تعبر عن نفسها في قضية اغتراب العلم عن المجتمع، أي دوره كأداة تحويل للواقع على قاعدة الموقف من المجتمع الطبقي، والرأسمالية كما هي اليوم بشكل أساس. والعلم وكونه لا ينفصل عن عمليات العقل الأساسية، أي عملية الانعكاس التي في جوهرها عملية التجريد التي تبنى على أساسها عملية التعميم. لا بل إن العلم هو ميدان تظهر فيه هذه العمليات بشكل أكثر نضجاً وتبلوراً. والتجريد والتعميم، كعمليات أساسية تشكل عملية الانعكاس (من الواقع الملموس إلى تشكيل العقل نفسه)، هي سبر جوهر الظواهر عبر الإمساك بتناقضاتها الداخلية. العقل يقوم على هذه القاعدة، والتفكير العلمي كشكل خاص (كما الفن) من سلوك العقل وممارسته (كما هو التفكير «العادي»- اليومي).
ولهذا يمكن أن يشكل تاريخ العلم مادة مهمة ومبكرة لفهم ما يحصل اليوم على مستوى أشكال الوعي العادية- اليومية، ففي العلم تلعب النظرة إلى العالم دورها المركزي، أي النظرة الفلسفية إلى العالم والوجود، والموقف منه، وبالتالي فإن العلم كان حقل تجربة تاريخي مبكر للتعبير عن أزمة الانقسام بين الذات والموضوع كتعبير عن تناقض المجتمع الطبقي بشكل عام. وما يمكن أن يمدنا به تحليل أزمة العلم طوال العقود الماضية مذهل في كيفية كشفه لمظاهر مجمل أزمة الوعي والبنية الفوقية بشكل عام، إضافة إلى ممارسات العقل المهيمن المفلس نفسه في هذه اللحظة التاريخية من وصول التناقض الاجتماعي إلى مرحلة صار ما كان في العلم حاضراً بشكل مكثف، يطبع العام من فضاء الوعي اليومي والإبداعية الخاصة. أي صرنا اليوم في مرحلة يقول عنها ماكس هوركهايمر (في نصّه القديم «حول الأزمة في العلم») عندما يظهر إلى السطح ما كان ضمنياً وخاصاً بالعين المختصّة، فيصير سهل المنال حتى إلى العين العادية.

ملامح أزمة العلم

نعيد بعضاً من الملامح الأساسية للعلم في العقود الماضية، والتي حصرها الباحثون والماركسيون منهم بشكل خاص بعناوين عامة. أولاً، إن عدم القدرة على حل انقسام-ازدواجية عقل- مادة وذات- موضوع، وتحديداً في العلوم الإنسانية (حيث تظهر النظرة إلى العالم بشكل أكثر وضوحاً من العلوم «الطبيعية»)، يؤدي إلى التوالد والتكاثر غير المتناهي والمتسارع للنظريات والمواقف والطرق تجاه موضوع البحث. وثانياً، يجري تفريغ الموضوع من حركته الداخلية وفعاليته، أي القانون الذي يحركه، فالمنهجيات المهيمنة في العلوم الإنسانية مثلاً، كالتجريبية والبيولوجية البحتة التي تبني تحليلها على تحليل الدماغ والجينات والأعصاب، تؤدي إلى نزع ذاتية الإنسان، وتفرغه من جوهره الفاعل وحتى وجوده ككيان، أي تذويب الذات بالموضوع. وثالثاً، يجري تضخم للعقلية والممارسة التجريبية، والتي تفكك القضايا وتعزلها عن وحدتها الكلية، وعن المسار التاريخي لهذا التطور، وضرب المرجعيات النظرية، أيّة نظرية، مما يجعل جميع الباحثين والعلماء يقبلون أيّة فكرة بشكل كامل إلى جانب قبولهم بنقيضها، وتبنّي كل فكرة مع بنائها الفكري في مزيج مسخ ومتناقض، ما يظهر الاتجاه «الاستهلاكي» في العلم ضد الإنتاجي- الابتكاري. وهذا يلتقي مع الملمح الرابع، أي العقلية الكميّة التي تغلّب المحاسباتية على الجوهر والمضمون، فيصير الشعار، على حد تعبير حامد إكبيا الباحث الإيراني في جامعة إنديانا والمختص في الاقتصاد- السياسي للحوسبة، «كلما كان أكثر كلما كان أحسن» (بمعزل عن طروحات إكبيا المثالية كموقف مضاد للبيولوجية البحتة في مؤلفه المشهور «أحلام اصطناعية»). والملمح الخامس هو التفكيكية المفرطة.

المقابل الاجتماعي العام لهذه الملامح

يمكن الملاحظة أن هذه الملامح «الخاصة» بالعلم يجري الحديث عنها مؤخراً في السنين الماضية كملامح بدأت تتخذ طريقها إلى المجتمع بشكل عام لتصير ملامحه. ولكن مؤخراً، أي خلال سنتين فقط بدأت تلتقي هذه الملامح في طروحات تكثف كل ما سبق. ونقصد بذلك ما نراه من ملامح تيار «توالدي- تكاثري» فيما خص المواقف تجاه ما يحصل، ومليونية المنصات والمرجعيات والآراء حول ما يحصل، وهو المكافئ لأزمة التّوالدية المفرطة في العلم، والتي تولّد تيار «الهويّاتية» في المجتمع. وهذا يفتح بالضرورة لقضية «التجريبية المفرطة» حيث يجري ضرب كل المرجعيات النظرية والركون إلى المحدوديات القاتلة التي تماثل الشكل بالجوهر، وتعدم المسار التاريخي، وتعمم النظرة الجامدة والمفككة للأحداث، وهذا مكافئ للتجريبية المفرطة التي هيمنت على العلم، وهي التي تشكل قاعدة تفريغ الإنسان من ذاتيه أيضاً، والعمل على حيونته وإغراقه في اللهاث المحموم وراء استهلاك الحدث، أو ما سمّي بعصر استهلاك العواطف، كتعويض عن التصحر للمجتمع الإنساني. وهذا بدوره يؤسس للاستهلاكية تجاه الآراء، كاتجاه مضاد للنقد والإبداع. وهذا هو الاتجاه القاتل لكل أيديولوجيات وتعميم الشكوكية والنسبية المطلقة، كاتجاه ميّز العلم مسبقاً. وما سبق يدفعنا بالضرورة إلى هيمنة تيار «ثقافة الإلغاء» كمفهوم بدأ يتبلور في السنوات الماضية، وهو يلغي كل حقيقة فكل رأي هو حقيقة بذاته، ويقوم بالضرورة على المرجعية الذاتية لصاحبه الذي هو مصدر الحقيقة الوحيد. ما يجعل المجتمع كله أمام حلقة مفرغة من «التسامح» المعطّل بلبوس طروحات قبول الآخر التي عمّت تيار حوار الحضارات/ صراع الحضارات، وكذروة لتطبيق الفلسفة المثالية الذاتية. إن ثقافة الإلغاء، والهوياتية تحت حركة «I identify» التي ظهرت مؤخراً، فرّغت الواقع من كل حقيقة ومن كل تقدم. والتوتر الحاصل اليوم بين تيار «التطورية الجينية خارج الفعل الاجتماعي» وبين «الذات التأملية في سياق اليوغا وعلاجات السعادة وعلم النفس الإيجابي» هي تعبير عن الثنائية التي حكمت العلم ضمن قطبي التجاذب «البيولوجي البحت» «والذاتي المثالي- الظواهري/ الفينومينولوجي البحت».
وفي المادة القادمة سنبيّن مجدداً أن فرض هذه الظواهر الثقافية والممارسات الفكرية ليست عملية يجري فرضها فقط على شكل قرارات، بل هي تأتي كلبوس لما يتطور في بنية النشاط (الممارسي والوعي) بشكل موضوعي. وبالتالي ليست القضية «مؤامرة ثقافية» وحيدة الجانب، بل هي أزمة البنية الرأسمالية وقضية تفككها الداخلي. وهنا نصل إلى خلاصة أساسية سياسية أنها ليست حرباً ثقافية بحتة، كما تحاول بعض الدول والتنظيمات والطروحات القول به. والرد على ما يحصل هو تحويل البنية الرأسمالية وليس فعلاً دفاعياً ثقافياً «محلياً» بل مشروع نمط حياة يعيد الربط العضوي بين الفرد والمجتمع والطبيعة بدل التفكيك الحاصل على أساس نشاط جديد هو الوحيد القادر على التجميع، أي الترجمة الممارسية لنمط إنتاج جديد مع ما يعنيه من تحويل في العلاقات، وأهمها علاقة الإنسان بالعالم ونظرته إليه وإلى نفسه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1103
آخر تعديل على الإثنين, 02 كانون2/يناير 2023 22:11