الإعلام العربي: صراع وشجار المتناقضات..

الإعلام العربي: صراع وشجار المتناقضات..

تجد وسائل الإعلام كما يبدو غواية في اختيار من تعتبرهم «أضداداً» أو أشخاصاً من تيارات فكرية وسياسية مختلفة، لتضعهم أمام عدسات الكاميرا كي يتفرّج الجمهور عليهم وهم يتشاجرون ويختلفون ويغضبون على الهواء. ورغم الشعبية الظاهرية لهذا النوع من البرامج تبقى قيمتها المعرفية والسياسية موضع شك.

الاتجاه المعاكس

يُعد برنامج الاتجاه المعاكس، من تقديم فيصل القاسم، الذي بدأ عرضه على قناة الجزيرة قبل 21 عاماً المثال الأبرز في العالم العربي على هذا النوع من البرامج. وعندما بدأ عرض هذا البرنامج للمرة الأولى في التسعينيات، كان وضعُ أشخاصٍ- ينتمون في الظاهر لتيارات مضادة سياسية ودينية وفكرية، وجمعهم في مكان واحد وجهاً لوجه- أمراً جديداً بالنسبة للمشاهد العربي الذي اعتاد أن يظهر أحد الأطراف على القناة الإعلامية كي يسب ويلعن طرفاً آخر غيبياً. وبالتالي تحوّل حضور الشجار المتلفز إلى طقسٍ أسبوعي تنتظره شرائح واسعة من الجمهور العربي.
هذا وتذهب التقييمات والانتقادات التي كُتبت حول البرنامج للقول بأنه «نجح في كسر التابهوات، وأثار قلق الكثير من الزعماء العرب»، لكن الادعاء السابق، كما يبدو، يحتمل قدراً كبيراً من المبالغة، ويدخل ضمن نطاق الدعاية المضخّمة الخاصة بالبرنامج والقناة.

عصر جعفر توك

قبل سنوات قليلة بدأت «دويتشه فيله» القناة الألمانية الناطقة بالعربية، عرض برنامج «جعفر توك» الذي يقدمه المذيع جعفر عبد الكريم، الألماني من أصولٍ لبنانية. يشابه جعفر توك الاتجاه المعاكس في مبدأ «الجمع بين التضاد»، لكنه يختلف عن الأخير بعدة مناحٍ. بدايةً يمتاز جعفر توك بالجدة والعصرية واستخدام وسائط الاتصال والتقنيات الحديثة لعرض الإحصاءات والتقارير التي قد تذكر في سياق كل حلقة. كما وأن جعفر توك موجه أيضاً وبصورة مباشرة للشباب العربي حصراً، في حين كان الاتجاه المعاكس يستهدف فئةً عمريةً أكبر.
لكن منبع الاختلاف الأساسي بين البرنامجين يكمن في الموضوعات التي يتم طرحها، ففي حين يستأثر الاتجاه المعاكس بنقاش الملفات الشائكة والحساسة، سياسية كانت أم فكرية أم دينية. يهتم جعفر توك بكسر ما يعتبره «تابوهات ثقافية واجتماعية» وتأتي في قائمة أولوياته قضايا المثلية الجنسية، والاختلافات الدينية والقومية، وقضايا، كالتصدي للعنصرية والتعصّب والتخلّف. وبالتالي فجعفر توك أتى للمشاهد العربي بـ «مهمة تنويرية»، بحيث يبدو جلياً أن البرنامج ومقدمه، ومن خلفه القناة ككل، تمتلك قناعات مسبقة عن المجتمعات العربية، كمجتمعات مغلقة ومتعصبة ومتأخرة ثقافياً، وبالتالي تختار أسلوب العلاج بالصدمة، عبر تعريض هذه المجتمعات لما يخالف قناعاتها. في الوقت الذي يشبه فيه الاتجاه المعاكس، رغم مساوئه، طبيعة المجتمع الذي خرج منه، يأتي جعفر توك كي «يُحضّر العرب»، ويعلمهم فن الحوار والاستماع للرأي الآخر واحترامه. ولتكريس قوانين التحاور يخصص المذيع زمناً مماثلاً لكل ضيف، ويحاول أن يراعي تخصيص فرص مماثلة لبدء الكلام والإجابة عن الأسئلة. وبالرغم من كل ذلك، نادراً ما يشعر المشاهد بأن أحداً قد احترم أحداً في الحقيقة، ومع هذا فالنقاشات غالباً ما تتنهي بعبارات من قبيل: «هذا رأيك وأنا احترمه».
يصر برنامج جعفر توك على أجندته، ونراه مثلاً يستضيف رجلاً تزوّج 12 امرأة مقابل ناشطة حقوقية في مجال حقوق النساء، أو يضع في المواجهة شخصاً متحولاً جنسياً مقابل شخص يرفض تقبّل المثلية، أو يناقش في حلقة أخرى الرسومات الكاريكاتيرية التي يراها البعض مسيئة للإسلام، ويستضيف أناساً يوافقون هذا الرأي أو يخالفونه. في حين يعالج أيضاً قضايا، مثل: التبني وتجميد البويضات وزواج القاصرات. واللافت أيضاً: أن طبيعة المشاهد- الذي تضمها تقارير البرنامج والريبورتاجات المعروضة ضمنه- أجرأ من حيث صورتها ومضمونها عما يظهر عادةً في تقرير تلفزيوني.

شخصية المذيع كعامل جذب

شكلت شخصية فيصل القاسم لوقت طويل عامل جذب لبرنامج الاتجاه المعاكس، سواء أحبه الجمهور أم كرهه، فالمهم هنا أن يمتلك المذيع شخصية طاغية ومتفرّدة. ولذلك لطالما استمتع الجمهور بردود فعل القاسم وانفعالاته المبالغ بها، ولكنته التي تنفلت منه أحياناً حينما يغضب. كما أن صوته الحاد المرتفع كان أيضاً سمة تميّزه. وعلى المقلب الآخر، لجعفر أيضاً سمات خاصة، قوامها قوة الشخصية والصوت المرتفع لكن المضبوط، وحدّة الملامح التي تشي بالانفعال، كما أن جعفر كثيراً ما يتخذ وضعية المحقق، بحيث يستنطق ضيوفه ويؤنبهم، وكثيراً ما تشي حركات جسده بالتعالي والشعور بالتفوق على بعض ضيوفه، وتحديداً ما إذا كان يختلف معهم في الرأي. وهذا يحيلنا إلى نقطة مهمة أخرى؛ فرغم كل الجهود المبذولة للتظاهر بالحياد، لكن موقف القناة، ممثلاً بجعفر نفسه، معلنٌ ومصطفٌ مسبقاً مع أحد الأطراف.

ترتيب التناقضات حسب الأهمية

يمكن بداية فهم الدوافع الإعلامية، أو التسويقية، وراء هذا النوع من البرامج، فالحلقات لا يمكن أن تكون باردة، وما إن يعلو الشجار، وترتفع الأصوات حتى ينشدّ انتباه المتابع ويصبح مهتماً بمعرفة مصير الحوار، ومن ستكتب له الغلبة في الحرب الكلامية. كما أن هذا النوع من البرامج استعراضٌ للكراهية حتى لو كانت ضمنية، بين أطرافٍ ترفض بعضها بعضاً، وهذا أيضاً مُغرٍ للمشاهد.
وهنا، لا يجب التقليل من أهمية استضافة التيارات المتعارضة على طاولة حوار، فأحياناً ما يكون جمع هؤلاء في مكانٍ واحد مكسباً حقيقاً. وبالتالي فالنقاش لا يهاجم فكرة «الجمع بين المتناقضات» من حيث المبدأ، بل ينتقد السطحية والاختزال التي يتم فيها حصر فكرة التناقضات ضمن خانات: «أبيض» و«أسود» و«خير» و«شرير». وفي حالة جعفر توك تحديداً، هناك خطورة تتعلق بترتيب أولويات المشاهدين العرب حول التناقضات والنقاط الخلافية التي يجب التفكير بها أولاً، فالبرنامج يرى أن مشكلة المجتمعات العربية، ثقافية في المقام الأول. ويعتبر قبول القيم الغربية، كما هي، المحدد في الانفتاح والتحضّر.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1024