موسيقى كارل فيليب إيمانويل باخ
ثائر صالح ثائر صالح

موسيقى كارل فيليب إيمانويل باخ

لم يكن كارل فيليب إيمانويل باخ (ولد في 8 آذار/ مارس 1714) يعرف أنه سيدخل التاريخ بصفته حلقة الوصل بين المدرستين الفنيتين العظيمتين في الموسيقى، الباروك والكلاسيك. فقد ولد في الفترة الذهبية لكن الأخيرة من عصر الباروك، عندما وصل هذا الأسلوب الموسيقي إلى ذروته وقمة مجده على يد أبيه يوهان سيباستيان باخ، وأبيه الروحي جورج فيليب تلمان، وكذلك على يد هَندل وفيفالدي ورامو وغيرهم الكثير من عباقرة الموسيقى آنذاك. أخذ كارل فيليب يستكشف الإمكانات الجديدة في التعبير الموسيقي، والاهتمام بالصوت والتعبير عن العواطف في شكل أعمق، وقاده هذا إلى ما أصبح يعرف لاحقاً بالموسيقى الكلاسيكية التي مثلها خير تمثيل فرنس يوزف هايدن وفولفغانغ أماديوس موتسارت ثم بيتهوفن.

كان أبوه، يوهان سيباستيان، معلمه الأول، ولربما الأهم. فعلمه العزف على الكلافير (وهي التسمية الألمانية لمختلف الآلات الموسيقية ذات المفاتيح، مثل البيانو والهاربسيكورد، وأخوات هذه الآلة مثل الكلافيكورد والسبينت وغيرها من الآلات القديمة التي أزاحها ظهور البيانو). ترعرع كارل فيليب في جو من الموسيقى. وتعرف إلى مختلف الأساليب الموسيقية، فتعرف إلى الموسيقى الفرنسية والإيطالية والألمانية، ومختلف التقنيات الموسيقية التي اتبعها المؤلفون، فتوسعت خبرته وتعززت عنده القدرة على التعبير الموسيقي. شغّله أبوه وهو صبي في نسخ المخطوطات الموسيقية المختلفة، أو نسخ أعماله وتهيئتها للفرق التي تؤديها بانتظام، سواء في كنيسة توما حيث عمل يوهان سيباستيان، أو في المجمع الموسيقي في مقهى تسيمرمان في لايبتسيغ، حيث أشرف باخ الأب على اختيار أجمل الأعمال الموسيقية لأفضل موسيقيي عصره، وتقديمها. وكان المجمع الموسيقي هذا محل تجمع طلاب الموسيقى في المؤسسات المختلفة، وهو أشبه بنادٍ اجتماعي ومهني للموسيقيين. هذه كانت مدرسته الثانية التي تعلم فيها الموسيقى عملياً، إلى جانب مدرسته، مدرسة القديس توما حيث تعلم العلوم والموسيقى.

من جانب آخر، دفعه أبوه – مثلما دفع بقية أبنائه – إلى دراسة الحقوق لأسباب عملية. إذ كان يوهان سيباستيان يود لو يكون تعامل النبلاء والاستقراطيين معهم تعاملاً مبنياً على الاحترام، لا أن يعاملوهم مثل خدمهم. فالموسيقي الذي يعمل عند النبلاء كان خادماً من الخدم، لا أكثر، وقصص التعامل الشنيع الذي لاقاه عظماء الموسيقيين كثيرة. أما من يحصل على شهادة جامعية منهم، لا سيما شهادة الحقوق التي اعتبرت وقتها أعلى الشهادات الجامعية وأرقاها، فسيلقى معاملة مختلفة بالتأكيد. هكذا، بدأ باخ الصغير دراسة الحقوق في جامعة لايبتسيغ أولاً، ثم في جامعة فرانكفورت (على نهر الأودر، وتقع شرق ألمانيا في براندنبورغ، وهي غير فرانكفورت على الماين العاصمة المالية لألمانيا وأوروبا اليوم) وهناك نال شهادة في الحقوق عام 1738 وهو في سن الرابعة والعشرين. لكن كارل فيليب أدار ظهره للمحاماة والحقوق فور إتمامه الجامعة، وعاد لينشغل بالموسيقى وبكل طاقته. وسرعان ما التحق باخ بخدمة الأمير فريدريش (فريدريك) ولي عهد بروسيا الذي توج ملكاً بعد عامين (باسم فريدريش الثاني، ولقب بالكبير). وعندها أصبح عازف الكلافير الخاص بالملك وعضواً في أوركسترا الملك في برلين وبوتسدام، بتوصية من عازف العود الألماني الكبير سيلفيوس ليوبولد فايس. وكانت هذه الفرقة تضم خيرة موسيقيي ذلك العصر، مثل الأخوين غراون (كارل هاينريش كان مؤلف أوبرا وهو الذي قاد الأوركسترا، ويوهان غوتليب كان عازف كمان)، وعازف الفلوت الكبير والمؤلف المرموق يوهان يواخيم كفانتس، والبوهيمي سليل العائلة الموسيقية الشهيرة إلى اليوم فرانس (فرانتِشَك) بندا. وسرعان ما وطد كارل فيليب موقعه كمؤلف من الطراز الأول، خصوصاً بعد تأليفه مجموعتين من السوناتات للكلافير أهدى الأولى للملك فريدريش (السوناتات البروسية 1740 - 1742)، والثانية لدوق فُرتَمبَرغ (سوناتات فرتمبرغ 1742 - 1744). ألف كارل فيليب خلال عمله عند الملك الكثير من الموسيقى لآلات الكلافير بمختلف أنواعها، بينها حوالى 200 سوناتا للكلافير المنفرد. إلى جانب هذا ألف عدداً من الأعمال الغنائية، منها عمله الديني الغنائي الجميل ماغنيفيكات (نشيد مريم) الذي كتبه بتأثير فن أبيه. وكتب كذلك عمله النظري التعليمي «رسالة في الفن الحقيقي للعزف على الكلافير» (الجزء الأول في 1753، والثاني في 1762)، وهو الكتاب الذي تعلم منه هايدن وموتسارت وبيتهوفن، وطبعت منه في حياة باخ ثلاث طبعات، وصدرت طبعة أخرى منقحة قبل وفاته في 1788 بعام.

وشخصية الملك فريدريش الثاني شخصية مثيرة، فهو الذي وضع أسس الدولة البروسية القوية التي وحدت ألمانيا تحت لوائها في ما بعد. فبنى جيشاً منظماً حديثاً لا يزال مضرب الأمثال في الانضباط، وأسس جهاز دولة منظماً بطريقة فائقة بإدخاله الكثير من الإصلاحات الإدارية التي اعتبرت جديدة وطليعية في أوروبا آنذاك، كما دعم تطوير الصناعة والزراعة وجلب أنواعاً جديدة من المحاصيل. وكان فريدريش معجباً بحركة التنوير الفرنسية وأدام صداقة قوية مع فولتير لفترة قبل أن يختلفا بعد زيارة فولتير الملك. وكان الملك موسيقياً كاملاً، إذ كان عازفاً جيداً على الفلوت وألف الكثير من الأعمال الموسيقية مثل سوناتات وكونشرتات الفلوت والسيمفونيات. يوصف على الدوام بالحاكم المستبد المستنير، إذ كان يتمتع بثقافة عالية، وله آراء كانت تعتبر طليعية في أوروبا، لكنه من جانب آخر اتبع سياسات متناقضة تتبادل بين التسامح والقمع، وقيد الحريات العامة وفرض الخدمة العسكرية الإجبارية، وقاد البلاد إلى عدد من الحروب.

كان تلمان الذي قضى قرابة نصف قرن في وظيفته مديراً الموسيقى في هامبورغ موسيقياً خصباً، لعله الأغزر نتاجاً في تاريخ الموسيقى على الإطلاق، إذ يزيد عدد الأعمال التي ألفها عن ثلاثة آلاف عمل. لكن إذا ما نظرنا إلى الأمر ملياً، فلن نستغرب هذا، فوظيفته في هامبورغ تعني تنظيم الحياة الموسيقية في الكنائس الخمس الرئيسية في المدينة، وفي البلدية والأدميرالية، وهذا يعني الإشراف على أكثر من مئتي مناسبة موسيقية في العام الواحد. هذا هو الواقع الذي وجد كارل فيليب نفسه فيه، فانهمك في التأليف الموسيقي وانتقل من التأليف للبيانو وموسيقى الحجرة كما اعتاد سابقاً، إلى تأليف الأعمال الدينية وأناشيد المناسبات المدنية (التي تقدم في مراسم تنصيب الموظفين الكبار أو المناسبات الرسمية أو الموسيقى الجنائزية مثلاً). لكن ما ألفه من أعمال لم يكن كافياً لسد الحاجة، فعمد إلى تقديم الكثير من أعمال أبيه وأعمال تلمان وهندل وغراون وهايدن وسالييري وغيرهم من الموسيقيين المهمين الذين يعاد اكتشافهم اليوم، مثل مجايله غوتفريد أوغوست هوميليوس، أو غوتفريد هاينريش شتولتسل الذي كتب أعمالاً موسيقية قد تتجاوز الألف، لم يصلنا منها سوى العشرات. وقد ألف الاثنان الكثير من الكانتاتات والأعمال الدينية الغنائية التي أهملت، على رغم جمالها. والمثير في الأمر، أننا نلمس تبادل الأدوار بينه وبين هايدن: فبعد أن كان كارل فيليب الملهم الأول لهايدن في بداية حياته، أخذ يتأثر بأعمال هايدن في هذه المرحلة المتأخرة من حياته، بعد أن رسخ هايدن موقعه الطليعي بين موسيقيي ذلك العصر. وقد سر باخ كثيراً عندما اطلع على أعمال هايدن لاحقاً، وذكر أن هايدن كان الوحيد الذي فهم كتابه رسالة في الفن الحقيقي، واستفاد منه.

كما أعاد كارل فيليب توزيع أعمال الموسيقيين الآخرين، وأضاف إليها من مؤلفاته وصاغها صوغاً جديداً، وهو أمر شائع ومقبول بين الموسيقيين في ذلك الوقت، وتسمى الأعمال التي تجمع من خليط من أعمال عدد من المؤلفين بالاسم الإيطالي باستيتشيو أو باستيكه في إشارة إلى أكلة إيطالية عبارة عن خليط من اللحم والمعجنات، فهي خلطة أدبية أو موسيقية.

 

المصدر: الحياة