الرحلة الأخيرة
نديم جرجوره نديم جرجوره

الرحلة الأخيرة

قبل أيام، حقّق السينمائي اللبناني رفيق حجار "الرحلة الأخيرة"، إثر تعرّضه لأزمة قلبية لم تُمهله، هذه المرّة، للعودة إلى عالمه الأثير. "الرحلة الأخيرة" عنوان مشروع سينمائي جديد له تحوّل، فجأة، إلى "رحيل أخير" أدركه حجار بعد سنين مديدة من المواجهات والخيبات والتحدّيات. الأمر غريبٌ: هناك إشارات تقول، مُسبقاً، بعضاً مما سيأتي. تقول، الآن، شيئاً مما سيحدث. العنوان الأول للمشروع السينمائي كان "الزائرة المجهولة". لكن الموت لم يعد مجهولاً، منذ أتقن البعض مواجهته والتأقلم مع مساراته.

قبل "الرحلة الأخيرة"، بدا رفيق حجار منزوياً في انفضاضه عن حياة مليئة باشتغالات مختلفة. عاصر لحظات أساسية في السياق التاريخي لما يُسمّى بـ"السينما اللبنانية". شهد منعطفات وتعرّجات عاشتها هذه الصناعة المرتبكة. شارك في ارتكاب معجزة الابتكار، وإن عجز الابتكار عن جعل الحيوية الفردية تأسيساً لحراك جماعي تحتاجه هذه الصناعة. واكب بدايات مختلفة لسينما لبنانية أرادت تفرّداً، فأُصيبت باجتياح إقليمي (مصري ـ تركي تحديداً) في لحظات بدت مؤهّلة لبلورة سينما محلية مختلفة. شاهد "الانفجار" السينمائي عشية اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، ذاك الذي أوهم كثيرين ببداية تأسيسية جديدة لسينما لبنانية خالصة، معنية بالهمّ المحليّ بمستوياته كلّها. غرق في اتون تلك الحرب اللعينة. أنجز أفلاماً جعلها خلاصة التزامات سياسية وثقافية ورغبات فنية، من دون أن ينسى المتطلبات التجارية. الحرب بغيضة. لكن المواجهة حتمية، وإن كانت فردية. التشتّت قدر سينمائيين لبنانيين، سواء تفرّقوا داخل البلد المنهار، أم غادروا إلى آفاق أرحب. الحرب لعينة. لكن الاستمرار محتاج إلى دافع ذاتي أقوى من الخراب.

رفيق حجار جزء من هذا كلّه. النهاية المعلّقة للحرب أفضت إلى سلم منقوص وهشّ. حافظ السينمائي العامل في التلفزيون أيضاً على نسق خاص به في معاينة الراهن، والبحث فيه عن معنى المقبل من الأيام. ديونٌ تراكمت. الهجرة دربٌ إلى خروج ما من ورطة الهموم اليومية الثقيلة. الهجرات كالمنافي عندما ترسم مصائر غير منتظرة. من الإمارات العربية المتحدّة إلى القاهرة، حاول رفيق حجار أن يستعيد بعض حضور. قبل هذا وذاك، وجد في البدايات الباهتة للسلم الملتبس حيّزاً لاستعادة مكانة اكتسبها عندما ساهم في كتابة أحد الفصول الغريبة لـ"السينما اللبنانية". استديو هنا، واستديو هناك. مثابرة ومحاولات جمّة للعمل. كأن المسارات التي عاشها انعكاساً للمسارات المرتبكة لتلك السينما الغامضة، المشبعة بـ"أحلام معلّقة".

رحيل رفيق حجار في القاهرة مدخل معقول لاستعادة تأريخية ونقدية أعمق للتجربة السينمائية اللبنانية، التي عرفتها بيروت بدءاً من الستينيات الفائتة: السينمائي منتم بشدّة إلى تلك التجربة. صاحب رؤية لم تكتمل. صانع حكاية لم تنته. مبتكر صُور لا تزال ناقصة. هذه كلّها قابلة لأن تكون قصّة السينما في لبنان أيضاً. أو ربما قصّة لبنان نفسه في تلك السينما، أو خارجها.

 

المصدر: السفير