الطليعة ... مذكرات صحيفة دمشقية

الطليعة ... مذكرات صحيفة دمشقية

«وقد يصنع القيصر دستوراً وبرلماناً ليختفي ورائهما، وليمارس تسلطه وإرهابه من خلالهما» العدد الأول من جريدة «الطليعة» 17 كانون الأول 1953.

قيصر وأهل الرأي

يقول عدنان الملوحي:
أصدر الشيشكلي قانوناً جديداً للمطبوعات، وتقدمت بطلب الترخيص لجريدة، وأصبحت صاحب ورئيس تحرير جريدة دمشقية مستقلة سميتها «الطليعة». ولما علم الشيشكلي بالأمر، اتصل بالأستاذ فؤاد الشايب وعاتبه لأنه منحني الترخيص، وقال له: إنني أصدرت القانون للحفظ في الأدراج لا للتنفيذ، ولغاية إعلامية دعائية لأثبت أنني أقمت نظاماً دستورياً ديمقراطياً! رد عليه الشايب: لماذا لا ننفذ قانوناً أصدرتموه؟ فسكت الشيشكلي على مضض.
وعند صدور العدد الأول من الطليعة، اتصل الشيشكلي بفؤاد الشايب يحتج على نشر مقال «قيصر وأهل الرأي»، المقال الذي رفضت كل الصحف نشره، وتطوعت جريدة الطليعة لنشره في عددها الأول. فقال له الشايب: أنتم يا سيدي لستم القيصر ولا الامبراطور ولا الديكتاتور، والمقال لا يعنيكم، لأنكم رئيس شرعي منتخب بطريقة ديمقراطية! فصدقه الشيشكلي وسكت على مضض، ومر المقال ومرت معه جريدتي الوليدة بسلام.
قال عدنان الملوحي في العدد الأول بأنه مستقل وجريدته مستقلة، ولا يعبر عن حزب معين، وإنما يعبر عن رأي كل وطني تقدمي. يضيف الملوحي: ولكن بعض أو أكثر من كانوا يقرأون جريدتي ويعجبون بها أو لا يعجبون، كانوا يظنون أنها شيوعية وأنني شيوعي لأنني كنت أبشر بالاشتراكية.

صحيفة معادية للأحلاف

تحت عنوان «المشاريع الاستعمارية»، كتب الملوحي في العدد (13) بتاريخ 8/3/1954: 

«يخطئ كثيراً من يظن أن المشاريع الاستعمارية التي تسعى أمريكا وبريطانيا لتحقيقها في سورية والأقطار العربية الأخرى، وفي الشرق كله منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، قد توقفت أو حدت نشاطها وحبك مؤامراتها، ذلك لأن هذه المشاريع موضوعة لاستغلال مرافق هذه المنطقة من العالم وتسخير أراضيها لإعداد وتهيئة حرب عالمية ثالثة، وتحقيق استعمار الغرب للشرق من جديد وبصورة أشد وأقسى.
ومهمة الدور الانتقالي في سورية الآن القضاء على كل محاولة يريد المستعمرون بواسطتها فرض مشاريعهم الدفاعية وغيرها على بلادنا، أو الضغط من أجل الاتجاه وجهة لا مصلحة لبلادنا ولا لشعبنا فيها، وكشف جميع المؤامرات التي يدبرها أصحاب المشاريع في الخفاء ضد الحكم الديمقراطي الشعبي الصحيح الذي لا يمكن تنفيذ هذه المشاريع عن طريقه بحال من الأحوال».
ومن افتتاحية العدد (16) الصادر في 8/4/1954 ينتقد الملوحي السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تحت عنوان «دور أمريكا في الانقلابات»:
«لم يعد خافياً على أحد أن أمريكا ودولاراتها لعبت دوراً خطيراً في تدبير الانقلابات سواء في سورية أو غيرها ولكن الذي خفي على أمريكا وما يزال خافيا عليها حتى الآن، هو أن الانقلابات لا يمكن أن تحقق آمالها في السيطرة وإقامة القواعد الحربية وفرض التحالفات العسكرية وزج بلاد الشرق في أتون الحرب، وأن دولاراتها مهما كان ثمنها لا يمكن أن تخدع شعوب الشرق، ولا أن تغرر بها لتسير في ركابها، وإن كل حكومة تقوم على أكتاف أمريكا ودولاراتها في هذا الشرق مصيرها الفشل الأكيد كما دلت على ذلك تجارب السنوات الخمس الأخيرة في بلادنا.
قد تجرب أمريكا أن تلعب دوراً جديداً في تحضير الانقلابات ولكنها فاشلة حتما في جميع تجاربها، ودولاراتها لم تعد عملة رائجة ومتداولة في هذه البلاد لأن العسكريين هم من أبناء الشعب ولأنهم يشكلون الجيش الوطني الذي نعده للدفاع عن بلادنا ضد كل المؤامرات الاستعمارية والصهيونية على السواء! فهل اقتنعت أمريكا بعد كل هذا الذي جرى أن مهمتها انتهت في هذه البلاد؟».
نشر العدد (19) نيسان 1954 في صفحته الأولى عن خفايا مؤتمر بحمدون الإسلامي المسيحي الذي عقد برعاية أمريكية. وكتبت الطليعة: رجال الدين في بحمدون يصفعون أمريكا على وجهها، أمريكا ودول الغرب الرأسمالية تشكل أكبر خطر على الدين والحرية، لولا أمريكا ما قامت إسرائيل ولا تكالب الاستعمار في العالم. كما نشر العدد مواقف الاتحاد السوفييتي الداعمة للقضايا الوطنية العربية، وكلمة لستالين يقول فيها: إذا اقتنعت بأنك على حق فيما تعمل، فلا تهتم بما يقوله الناس عنك، افعل ما يُمليه عليك ضميرك ووجدانك.
وفي الصفحة الأولى للعدد (36) عام 1954 كتبت الطليعة: خالد بكداش نائب دمشق، انتصار رائع للقوى التقدمية في الانتخابات، وحملت الافتتاحية عنوان: لماذا نجح خالد بكداش؟ أما العدد (49) في كانون الثاني 1955، فنشر في الصفحة الأولى نص خطاب الأستاذ خالد بكداش في البرلمان حول السياسة الخارجية والأحلاف الاستعمارية والقضايا العربية والدولية. كما رفعت الجريدة شعار «الأخوة العربية الكردية».
صدرت الطليعة كجريدة أسبوعية سياسية مستقلة، أغلقتها سلطات الوحدة عام 1958، ثم عادت وصدرت في عهد الانفصال باسم «الطليعة العربية» كجريدة يومية سياسية مستقلة، بعد أن انضم إلى هيئة تحريرها عبد الباقي الجمالي وهو صاحب جريدة «النور» التي أغلقت بداية الوحدة مع مصر ولم تصدر أيام الانفصال، وحرر فيها أيضاً سعيد مراد ونصر الدين البحرة وسعيد حورانية، وأغلقت الطليعة العربية نهائياً بتاريخ 8/3/1963.
يذكر أن عدنان الملوحي الذي تخرج من الكلية الشرعية، أصدر مذكراته «الطريق إلى دمشق»، وفيها فصول شيّقة عن المظاهرات الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي وثورة الفقراء في حي جورة الشياح الحمصي، وانتفاضة الجلاء ورحيل الاستعمار، وعن رجال الدين الذين اتهموا بالشيوعية في حمص، وذكريات لجوئه إلى ألمانيا الديمقراطية بعد 1963. المذكرات من تقديم شقيقه الأديب عبد المعين الملوحي «الشيوعي المزمن».

الإعلام الليبرالي اليوم

ربما سمع الكثيرون اليوم عن شعارات مثل «الحياد»، «الاستقلالية»، الشعارات التي تدعي وسائل الإعلام الليبرالية تبنيها وتنفيذها. تلك الوسائل التي تسوق إلى الناس كذبة كاريكاتورية أمريكية- غربية، وذات هدف ليس بمحايد ولا مستقل!
هي كذبة كاريكاتورية ليبرالية فضحها اثنان من الصحفيين وأساتذة الإعلام في الولايات المتحدة هما ديفيد إدواردز وديفيد كرومويل في كتاب «أسطورة الإعلام الغربي الليبرالي المستقل: حراس السلطة»، الكتاب الذي يتحدث عن السياسة الأمريكية والبريطانية ودور الإعلام في التضليل.
رغم مرور عقود طويلة على الإغلاق القسري لجريدة «الطليعة» الدمشقية، إلا أن كلمات موادها القديمة وهي مطبوعة على الورق الأصفر أصدق من استقلالية الإعلام الليبرالي.
فالطليعة جريدة مستقلة، حافظت على الخط الوطني العام للبلاد، ودافعت بشجاعة عن الحركة الشعبية زمن صعودها ومدها الجماهيري في خمسينات القرن العشرين، اتهمها خصومها بالشيوعية وهي ليست كذلك، بل ضربت مثالاً كيف ناضلت الصحافة السورية من أجل الحريات الصحفية منذ العدد الأول إلى الأخير مع تجنب الغرق في مستنقع الليبرالية، وحذرت من دور الاستعمار الأمريكي في التحضير للحرب العالمية الثالثة في منطقة الشرق قبل تصاعد التدخلات الأمريكية الحالية بعقود طويلة، ولمّحت إلى التراجع الذي سيصيب هؤلاء في النهاية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
944
آخر تعديل على الإثنين, 20 تموز/يوليو 2020 19:18