لعبة الحرب

لعبة الحرب

في وسائل الإعلام نقلت الشاشات والصفحات الخبر كما حدث. مصدر عسكري: "في تمام الساعة.. من صباح يوم... قام الطيران الحربي الإسرائيلي.. باستهداف محيط مدينة دمشق بعدد من الصواريخ...".

في الطابق الخامس، الأم مستيقظة منذ دقائق، تسمع الأصوات المرعبة، وبهدوء توقظ من بقي نائماً من أطفالها الستة. مرّ على هذه الأم، كغيرها من الأمهات السوريات، سنوات من الحرب، جعلت ما يحدث مألوفاً نوعاً ما، رغم اختلاف التفاصيل في كل مرة. ألبست أطفالها على عجل وجمعت بعض الأغراض والأوراق وما تبقى معها من "مصروف"، وارتدت معطفها، وانصتت. كان عقلها يعمل بسرعة. ها هي تسمع أصوات الانفجارات وتعرف تماماً ما يحدث. أنها غارة جوية وصواريخ تنفجر على بعدٍ ما. ماذا تفعل؟ ما هو الأفضل لسلامة أولادها؟ هل تنتظر هنا في بيتها في الطابق الخامس والأخير من البناية؟ أم تسرع في النزول إلى الأسفل؟

تنهدت. استعجلها ابنها الذي يغالبه النعاس: ماما شو نعمل؟ لا شيء، انتظروا قليلاً. انصتت ثانية. الجيران مستيقظون. في طابقها ثلاثة شقق أخرى (على العظم) مسكونة من فقراء آخرين لم يتمكنوا من السكنى في بيوت حقيقية فتجاوروا هنا. "سأرى ما سيفعل الجيران" هكذا حدثت نفسها دون أن تنطق.

الأولاد يغالبهم النعاس، ويارا الصغيرة تحتضن أمها بقوة، وتنظر في عينيها مباشرة. كانت هذه الطريقة الوحيدة التي تدفع بها الصغيرة الخوف عن نفسها. انتظرت. لا أحد من الجيران خرج من بيته. استمر هذا الحال بعض الوقت، ثم.. انتهت الغارة.

في اليوم التالي. يتجمع الصغار كعادتهم للعب. يختارون أقصى مكان في البلدة حيث لا يوجد سوى الخلاء ليركضوا ويحصلوا على بعض المرح دون أن يزعجهم الكبار بتنبيهاتهم المتشنجة. هذا اليوم ليس كبقية الأيام. فعلى مقربة من ساحة لعبهم هذه، سقط أحد صواريخ الأمس، تاركاً بعض المخلفات.

يكاد الفضول يأكلهم. يقتربون بشيء من الوجل في البداية، ثم يتشجع بعضهم ويبدأ باللعب ببقايا الصاروخ. أحدهم يشعل ناراً في ذلك الجزء المتفحم، فهو يريد أن يتأكد فيما إذا كان هناك شيئاً لم ينفجر بعد في قلب هذه الخردة، وآخرون يمسكون ببعض بقايا البارود المنتشرة في المكان. أحدهم يطلق تحذيراً لهؤلاء بالابتعاد، فقد يكون هناك مواد سامة أو حارقة. يضحك بعض الفتية عليه ويطلقون تعليقاتهم القاسية بأنه ليس سوى طفل خائف جبان. يدفع الصغير التهمة عنه بأنه شاهد هذا في "التلفزيون"، حيث أحرقت مواد حارقة أطفال آخرون في مكان آخر من بلدهم. ولكن الأطفال يتمادون في الإساءة إليه. ولإثبات شجاعته أمامهم يملأ الطفل قبضتيه، بهذه المادة ويرفعهما عالياً، ثم ينتقم من أحد الأطفال الذي وجّهوا له تهمة الجبن والخوف بأن يمسكه من ياقته ويضع المادة في ظهر زميله في اللعب. لا يعرف هؤلاء الفتية ما النتائج المترتبة عن اللعب بأدوات الموت هذه.

في مساء اليوم ذاته، حدثت مشكلة كبيرة بين عائلتي الطفلين السابقين. إذ على ما يبدو أن حروقاً أصابت أحدهم في ظهره جراء لعبتهم تلك. وبدأ كل طرف يرمي الآخر بأشنع الشتائم. "اولادكم بلا تربية.. اذا ما بتعرفوا تربو لا تخلفو...الخ الخ وصولاً إلى "شعب متخلف، همجي وإلا كيف بيلعبوا ولادكن هيك لعبة.. ببقايا صاروخ!  الله لا يوفقكم"   كان هذا ما صرخ به الشرطي ليخرس أبوي الطفلين الغاضبين.

امرأة الطابق الخامس تقف مشدوهة بين الأهالي. لقد استدعوها لأن أحد أطفالها كان مع شلة اللعب تلك. لم يخطر في بالها أن يحدث هذا. كانت مشغولة طوال الوقت بأمان أولادها. تذكرت رعبها ليلة أمس، والخيال السيء لما كان من الممكن أن يحدث والذي أطاحته شجاعتها "على الأقل أمام أولادها"، ماذا لو سقط هذا الصاروخ على البناء الذي تسكنه، وتحديداً في الطابق الخامس؟ كانت ساهمة، تسمع الحوارات الغاضبة والمشحونة للخليط الذي تقف أمامه. إنهم يتجادلون بشراسة. من يتحمل المسؤولية؟

البعض يقول: "الأهالي" فهم المسؤولون عن حماية ابنائهم وتوجيههم... والبعض يقول: "المدرسة"، فبعد هذه السنوات الطويلة من معايشة الحرب يفترض أن تقدم المدرسة توجيهاتها بما يفيد أو لا يفيد..الخ. أحدهم حمّل الدولة المسؤولية، فكيف لدولة عانت ما عانت من ويلات الحرب سنوات، وتتعرض لعدوان خارجي، ثم لا يفكر أحد بمصير كل تلك القذائف والصواريخ التي سقطت في مناطق محددة ومعروفة...الخ.

المرأة مازالت ساهمة، والنقاش لم ينته بعد. ومازال الجميع غاضبون. يعرف كلهم أن الحرب لم تنته بعد،  رغم تأكيدات الشرطي المخالفة وهو يبعق حول مسؤولياتهم التي يجب أن يتحملوها امام و "عن" ابنائهم!

توقف الحشد عن الصراخ وانضم إلى المرأة في صمتها. لم تنته الحرب بعد، ، يتفق الجميع حول هذه الفكرة صامتين، فهم يخوضون حرباً يومية في سبيل عيشهم، وأكثر من ذلك في سبيل بقائهم على قيد الحياة. لم يستطع صراخ الشرطي أن ينهي سيل أفكارهم، ولم يجب عن السؤال الذي يحرق أفئدتهم. من يتحمل المسؤولية في كل ما يجري؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
941