الفن.. الشكل والمحتوى في عصر النهضة
سلاف محمد صالح سلاف محمد صالح

الفن.. الشكل والمحتوى في عصر النهضة

يمثل فن عصر النهضة مثالاً واضحاً لبروز الأشكال الثقافية لنظم اجتماعية لاحقة في رحم نظم اجتماعية قائمة. لقد بدأ نشوء الأشكال الفنية والمُثل الجمالية التي شكَّلت بمجموعها الظواهر المميزة لعصر النهضة أواخر القرن الثالث عشر ومطلع الرابع عشر، وامتد نحو أربعة قرون، حين كان نمط الإنتاج الإقطاعي لا يزال سائداً. وكان لنمو القوى المنتجة دورٌ بارزٌ في نشوء ملامح ثقافية جديدة قبل سيادة عصرها الرأسمالي. كانت تلك القوى الاجتماعية المتركزة في المدن قادرةً ومؤهلةً للنضال ضد النظام القائم.

شكل ومحتوى فن ذلك العصر هو ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في مقالنا اليوم:

-1-

ظهرت النهضة بأشكال مختلفة في العالم تبعاً لظروف القوى المنتجة، لكن الباحثين الموضوعيين يجدون أنها تتخذ طابعها الكلاسيكي في إيطاليا أواخر القرن الثالث عشر. إذ تحررت مدنها من سيطرة الإقطاعيين، كما أنها لم تعرف شكْل (المَلَكيّة المتوَّجة بعد)، فقد أدارت المدن أمورها ذاتياً، وتمتعت بنفوذها الذاتي، خصوصاً فلورنسا.
فطبقة البرجوازية الناشئة، هي حفيدة الأقنان المناضلين والمدنيين الأوائل المناوئين لسلطة الإقطاع. وقد طوَّرت ورشاتها وتجاراتها الخارجية، وأَثْرَت، وصدَّت عن مدنها التوسعَ الجرماني، وظلت مالكةً لبلادها. وهكذا، ابتعدت عنها النظرة المأساوية العاجزة للعالم، والشعور بالمظلومية والعذاب وآلام الفقر السائدة في فن القرون الوسطى، وحلَّ عوضاً عنها الاحترام للإنسان الدنيوي المنتصر والقادر على إدراك محيطه والإحاطة بمباهجه بعيداً عن العواطف الغيبية. لقد كان برجوازيو المدن (بشراً من طراز جديد) معنيين بمزيدٍ من البحث العلمي وتطوير المانيفكتورات والتجارة والإثراء، وكل ما يرتبط بالعالم المادي الموضوعي.
جرى ذلك ضمن نمط إنتاج سائد هو الإقطاع، حيث لم تكن القاعدة الاجتماعية لنمط الإنتاج اللاحق الرأسمالي استُكمِلت بعد، ولم يكن للبرجوازية بالتالي أن تعبِّر عن نفسها بانقلاب صناعي، كما جرى لاحقاً. كما جرى في ظروف مُورس فيها الاضطهاد على دعاة التفكير العلمي في مجالات المعرفة العلمية المتعددة (غاليلو- برونو- فانيني-..)، وحُوربت المنجزات العلمية، بشكلٍ أعاق السُّبل الطبيعية لتطور العلم. ولم يكن للبرجوازية أن تعبّر عن وجودها سوى عن طريق الحضارة المدنية، والمعرفة الفنية كشكلٍ من أشكال التملك المركب للعالم الموضوعي. لقد ظهر البحث العلمي في منجزات إيطاليا الفنية ومنحوتاتها وأبنيتها، (بحوث دافنشي العلمية الضائعة وأعماله الفنية الباقية مثلاً).
ورغم أن مراكمة الثراء لدى تلك البرجوازية الناشئة، أنتج تمايزاً طبقياً، وصراعاً اجتماعياً في المدن، غير أنها مثَّلتْ بنضالها انفتاح الأفق مجدداً أمام التطور الفني الذي كان أساساً لنضوج (الثقافة الديمقراطية الشعبية اللاحقة). وعلى ذلك، فإن فن عصر النهضة هو فن شعبي في جوهره. ظهرت تلك الشعبية جلياً في الكوميديا الإلهية لدانتي التي برز فيها الإبداع في وصف الجحيم مستنداً إلى تاريخ طويل من العذاب البشري، في حين ظل وصف الخلاص (الفردوس) غامضاً ذا ملامح غير محددة، لكنه موجود يتطلب بحث الإنسان المستنير. وكذلك في أعمال جوتو دي بندوني التي وإن ظهر الألم الشديد في شخوصها، لكنه ظل وقوراً يدل على قدرة الإنسان على بلوغ خلاصه الواقعي.

-2-

يمكن لدى البحث في فن عصر النهضة الخروج بالخلاصات المحددة التالية:
1- المَثل الجمالي الجديد، هو الإنسان الواقعي الذي لمس قدرته الذاتية على تحدي ظلم الواقع الاجتماعي وقساوة الطبيعة، وبالتالي قدرته على البحث عن الخلاص الدنيوي. وعليه، أعلى الفنُّ شأن الذكاءَ والبحثَّ عن العلاقة الموضوعية بين الأشياء ووحدتها، وقلَّص من زخم العواطف. لكن عاطفة الإنجاز البحثي والعلمي ظهرت بوضوح في فنون عصر النهضة.
2-صوَّر فن ذلك العصر العالمَ الموضوعي مسرحاً لأعمال الإنسان، وهو ما استدعى من العاملين في حقوله تمثُّلاً وتملكاً معرفياً للواقع الموضوعي. ولربما يقدم ذلك تفسيراً لسيادة التصوير- الرسم التشكيلي في الفن، بمعنى انعكاس الموضوع في العمل الفني. لكنه لم يكن انعكاساً سلبياً دون عاطفة؛ ففي الرسم التشكيلي تُسكَب عواطف ومشاعر والرؤى الجمالية ومواقف الفنان في العمل الفني ذاته، وتظهر الأبعاد الفراغية التي تجسد مادية المواضيع الفنية. وعليه، فهو لم يَعنِ محاكاةً سلبية للواقع، بل فتحاً لآفاقٍ جديدة أمام المُثل الجمالية لتوطيد علاقة الإنسان بالواقع الموضوعي الذي بات يعي جزءاً من قوانينه ويعمل من خلال التصوير على البحث عما يزال غامضاً فيه.
3-وهكذا لعب الرسم التشكيلي دوراً أساساً في تطوير التشريح والمنظور والظلال واللون، ما أحدث (انقلاباً حقيقاً) في الفن. فعكف فنانو عصور النهضة على علوم الرياضيات والهندسة والبحث في الأسس العلمية للفن التشكيلي. وانصهرت للمرة الأولى الثقافة والمعرفة بالعواطف والإرادة، وانسكب ذلك في قوالبٍ جديدةٍ حديثةٍ للفن منتجةً المَثل الجمالي لعصر النهضة ضمن وحدة (الفكر التحليلي- العاطفة).
4-إن ارتباط الفن بالفكر التحليلي حرره من قيوده الماورائية، ومع اتخاذه شكله التصويري بشكلٍ رئيس، فقد شكَّل معرفةً كثيفةً للحياة ذاتها. وعندها بدأ الفن بالاستقلال عن الحِرف متخذاً أشكاله الصريحة للتعبير عن وجوده. وظهر الميل لاعتباره عِلماً.

-3-

ظل فن الكلمة في النسق الثاني طويلاً خلال تسيّد الرسم التشكيلي للمشهد الثقافي المعرفي نتيجةَ عدة عوامل تتعلق في جزءٍ منها بالرقابة أولاً. ثانياً أن القوى التي نفخت الروح الجديدة في الفن، كانت تمارس الفن بيدها، ولم تكن تفكر بمعزلٍ عن عملها، قبل أن يبلغ تقسيم العمل درجةً من التعقد اتجه إثرها نحو الفصل بين العملين العضلي والفكري، وهو ما طال العاملين في الفن. ولم يظهر الموقف من العالم في فن الكلمة سوى خلال الفترة الأخيرة من عصر النهضة (شكسبير- رابليه- سرفانتس-..)، وارتبط ظهوره بفن المسرح حينذاك مجسِّدَين وحدةَ الانعكاس (الكلامي- التشكيلي على أرض الواقع ممثلاً بالشخوص). وثالثاً إن ظهور نتائج إدخال الحياة وديناميكيتها، وتعقيدات الشخصيات الإنسانية، وغيرها، إلى مواضيع الرسم التشكيلي، تمَّ خلال الفترة المتأخرة من عصر النهضة؛ إذ برزت الحاجة إلى الوعي بفن الكلمة، والضرورة الموضوعية لدفعه إلى النسق الأول لمواجهة تلك القضايا وحلها.
وإذ ظهر الإنسان كشيءٍ من أشياء محيطه الواقعي بداية عصر النهضة، فإن ذلك المحيط تراجع عن المشهد أخيراً، ليحل الإنسان موضوعاً أساسياً- نموذجاً للعمل الفني وممثلاً للتاريخ البشري برمته وبجميع تجاربه وخلاصاته وصولاً إلى تلك اللحظة. وهو نموذج غير منتهٍ حاملٌ لطاقات مختلفة وغير نهائية.
وإذ كانت مآسي العصور السابقة ناتجة عن الغيب والقدر (أوديب مثلاً)، فإن مآسي إنسان عصر النهضة ناتجة عن اعتمال التناقضات النفسية والاجتماعية داخل الشخصية الإنسانية ذاتها (هاملت الذي تعتمل في داخله جميع التناقضات النفسية والصراعات الاجتماعية، وصولاً إلى نهايته المأساوية). والإنسان النموذج هذا يحمل نُبله وانحطاطه في ذاته (دون كيخوته وسانشو). والصراعات الداخلية تلك في شخصه، هي ما يهيئ لإرادته الانتصار على البذاءات والدناءات والانحطاط الأخلاقي الفردي والجماعي ممهداً الطريق للانتصار على التناقضات الاجتماعية التي انعكست في تلك النفس البشرية المصطرعة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
941
آخر تعديل على الإثنين, 25 تشرين2/نوفمبر 2019 13:33