اللغة الوطنية بين الهيمنة والتغيير

اللغة الوطنية بين الهيمنة والتغيير

كتب أولى مخطوطاته السرية من زنازين السجون الإيطالية، وعمل الثاني من مكتبه في الاتحاد السوفييتي، وكان ما كتبه غرامشي حول اللغة في كراسات السجن 1926-1937، وما نشره ستالين حول علم اللغة في جريدة البرافدا 1950...

مفهوم اللغة الوطنية

خاض ستالين في التطور التاريخي من لغات العشائر حتى لغات القبائل، ومن لغات القبائل حتى لغات القوميات، ومن لغات القوميات حتى اللغات الوطنية، ففي كل مكان، وفي جميع مراحل التطور، كانت اللغة، من حيث هي وسيلة لاتصال الناس فيما بينهم في المجتمع، مشتركةً وواحدةً للمجتمع، تخدم أعضاء المجتمع على السواء، بصورة مستقلة عن أوضاعهم الاجتماعية.
ومع ظهور الرأسمالية، وتصفية التجزئة الإقطاعية، ومع تكون سوق وطنية، تحولت الشعوب إلى أمم، وتحولت لغات الشعوب إلى لغات وطنية.

اللغة والتغيير

تلقى غرامشي علومه اللغوية في كلية تورينو، حيث كان مهتماً بعلوم اللغة وطمح إلى التخصص فيها. كما كتب باستمرار إلى درجة وجود ملاحظات لغوية في العديد من نصوصه.
ومن تلك النصوص دراستان كتبهما في سجن توري 1930، الأولى: حول «تنظيم المدرسة والثقافة»، والثانية: تحمل عنواناً «من أجل البحث عن مبدأ تربوي»، كما تحتل المسألة اللغوية كامل الكراس رقم 29 الذي كتبه في سجن فورنيا 1935 بعنوان «اللغة الوطنية والنحو».
يُلح غرامشي، أن اللغة تتغير في نفس الوقت الذي تتغير فيه الحضارة كلها بفعل دخول طبقات جديدة إلى الثقافة والهيمنة التي تمارسها لغة وطنية معينة على لغات أخرى، وغير ذلك من الأسباب. ويؤكد أيضاً على «تاريخية الظاهرة اللغوية»، ويوضح في الوقت نفسه أنه ليس بإمكان أي وضع تاريخي جديد حتى إذا سلمنا بأنه ناتج عن أكثر التحولات جذرية أن يغير اللغة تغييراً كاملاً على الأقل فيما هو ظاهر وشكلي من جوانبها.

اللغة ومفهوم الهيمنة

القضايا اللغوية جزء لا يتجزأ من منظومة نظرية «الماركسية»، وهي منظومة متكاملة في مفاهيمها وأدواتها التي تستعملها مثل مفهوم الهيمنة. ويؤكد غرامشي، أن الطبقات السائدة إذا فقدت الهيمنة الثقافية والفكرية والأخلاقية، فإنها تفقد وظيفتها القيادية، وتعوضها بوظيفة تسلطية، فتدخل بذلك طور التدهور أو الانهيار.
جاء في الكراس 29: كلّما طفحت المسألة اللغوية على السطح بشكل أو بآخر، فإن ذلك يعني أنّ جملة من المشاكل الأخرى بصدد الطرح، كعملية تشكل الطبقة السائدة وتوسعها، وضرورة ترسيخ علاقات أكثر حميمية وأكثر صلابة بين المجموعات القيادية والجمهور، أي: إعادة تنظيم الهيمنة الثقافية. وهنا يبدأ الدور القيادي للطبقات السفلى الطامحة إلى إزاحة الطبقات العليا، وأخذ مكانها في إدارة الشؤون العامة اجتماعياً ووطنياً في إطار سياسة ثقافية محددة.
وفي عملية التغيير الاجتماعي هذه، يبرز دور «المثقف الجماعي» أي: حزب الطبقة العاملة، ويصبح من الضروري أن يتحول العمال إلى مثقفين بوصفهم أعضاء قياديين في هذا المثقف الجماعي. وهنا يرى غرامشي في اللغة ليس فقط تعبيراً عن الصراعات من أجل الهيمنة السياسية والثقافية، بل أيضاً رهاناً لتلك الصراعات، لأن المهمة المطروحة هي مكافحة كلّ ما ينزع إلى الإبقاء على الجماهير بعيداً عن الثقافة، في المدرسة، وفي المجتمع وبالعمل على تحقيق تمكن العمال في كامل البلاد من اللغة الوطنية.
يقول غرامشي: الذين لا يتكلمون إلا لهجتهم العامية أو يفهمون اللغة الوطنية فهماً تقريبياً يتشاركون في رؤية للعالم، هي بوجه أو بآخر محدودة ومحلية متكلسة أو تجاوزها الزمن، في مقابل التيارات الفكرية الكبرى السائدة في التاريخ العالمي، وإذا لم يكن دائماً بالإمكان تعلم عدد من اللغات المختلفة، فإنه ينبغي على الأقل تعلم اللغة الوطنية تعلماً جيداً.
أما من وجهة نظر الزاوية الوطنية، فإن المكانة المركزية للمسألة اللغوية أمر بدهي في بلد وحدته الوطنية بصدد التكون أو بصدد التعزيز، وهي وحدة يوليها غرامشي اهتماماً كبيراً في كتاباته التي تعكس عمق استيعابه للتراث الثقافي الإيطالي، الذي جعله ينتبه انتباهاً خاصاً إلى دور المثقفين في توسع الثقافة الوطنية خلال القرن 19 وصولاً إلى الإقرار التدريجي لهيمنة اللهجة التوسكانية التي أصبحت لغة وطنية.

التوحيد اللغوي

يعارض غرامشي المنهج التربوي المسطر من قبل وزير التعليم في الحكومة الفاشية، ذلك المنهج المبني على مفهوم شعبوي يعتمد التلقائية المثالية، ويؤكد من جهة ثانية على منهجية تعتمد تدريس النحو في إطار التخطيط لسياسة ثقافية وطنية تحقق هدف التوحيد اللغوي، وليس فرض اللغة المهيمنة قسرياً.
التوحيد اللغوي هدف يُفرض من فوق، من المركز على الأطراف، ويتحقق كنتاج لتوافق حول طبيعة اللغة الوطنية، وطريقة الوصول إلى نشرها وضمان دوامها وتطورها، حتى تكون هيمنتها محل اقتناع وإجماع شامل. وهذا يعني أنه لا ينبغي وضع اللغة الوطنية في تناقض قسري مع اللهجات واللغات المحلية، بل في علاقة تلاقح جدلية وتكامل وظيفي.
فغرامشي المعجب بمانزوني، لا يمنعه إعجابه من نقد تصوره للتوحيد اللغوي نقداً حازماً، ملفتاً النظر إلى محاولة مانزوني بعد سبع سنوات فقط من توحيد إيطاليا سياسياً، إلى الطابع الاصطناعي للتوحيد اللغوي الذي انتهى بفرض اللهجة التوسكانية «والفلورنتية تحديداً» من فوق، كما لا يمنعه حرصه على الوحدة اللغوية من مراعاة خصوصية اللهجات وضرورة اعتمادها في السنوات الأولى للتعليم، و يبرز ذلك جلياً في مراسلاته إلى عائلته في سردينيا، وإلى زوجة أخيه التي ينصحها بتعليم حفيده بالسردينية في تكامل مع اللغة الإيطالية المشتركة.

اللغة الوطنية والمثقف العضوي

الهيمنة، هي المفهوم الذي تناوله غرامشي في المسائل اللغوية، وحلل الطريقة التي تمارس بها المجموعات السائدة سلطتها عبر تنظيم قبول تلك السلطة عن طوعية وطيبة خاطر من مجموع المحكومين، وفي المقابل لعبت قضية توحيد اللغة كوسيلة تعبير ورمز للهوية المشتركة، وكوسيلة ارتقاء الطبقات السفلى إلى الثقافة، واكتسابها القدرة على إبراز مثقفيها العضويين، دوراً هاماً في صياغة مفهوم الهيمنة ذاته.
ومن هنا تلعب اللغة الوطنية دورها في ظهور المثقفين العضويين من العمال بوصفهم أعضاء قياديين في المثقف الجماعي «حزب الطبقة العاملة» لإنجاز التغيير.

معلومات إضافية

العدد رقم:
927
آخر تعديل على الإثنين, 19 آب/أغسطس 2019 14:59