الفقراء في كل مكان..

الفقراء في كل مكان..

أثناء زيارتي لسلطنة عُمان، لفت انتباهي أن التدخين ممنوعٌ منعاً باتاً في كل الأماكن المغلقة في العاصمة العُمانية (مسقط). وهذه ظاهرة حضارية تُسجّل لها. فقد كنت أضطرُّ لتحمّلِ درجات الحرارة العالية وأدخّن في الخارج. وفي إحدى المرات، كنت واقفاً أستمتع بتدخين سيجارة بعد طول غياب، محتمياً من لهيب الشمس بظلّ حائطٍ قرب مدخل الفندق الذي أنزل فيه، اقترب صوبي رجلٌ خمسينيٌّ يلبس الزيَّ العماني (جلاّبية بيضاء ويعتمر كِمّة) وخاطبني سائلاً:

- تكسي؟
أجبته شاكراً بالنفي. وقد عرفتُ بأنه يعمل سائقاً من خلال سيارة التكسي المركونة قبالة مدخل الفندق. وقف قريباً منّي وسحب سيجارة من علبته وبدأ التدخين.
شعرتُ بحاجة ماسّة للدردشة معه لتمضية الوقت، ولكوننا نقترف ذات العادة السيئة بادرته قائلاً:
- الرطوبة عالية جداً، أعانكم الله على هذا الجوّ. كيف حال الشغل لديكم هذه الأيام يا أخي؟
أجاب سريعاً وكأنه يشاركني ذات الرغبة بالمحادثة، وبلهجته العُمانية التي لم أستطع استيعاب جميع مفرداتها:
- والله يا شيخ، خلال الصيف ينخفض عملنا إلى درجة مزرية؛ كما ترى، بالكاد تلمح الناس في الشوارع بسبب الحرّ الشديد من جهة، وبسبب ملكية أغلبية القاطنين في مسقط للسيارات الخاصة من جهة أخرى. لذلك نربض منتظرين أمام الفنادق لخدمة النزلاء عسى ولعلَّ..
سألته متعاطفاً:
- وكم يبلغ دخلك الشهري في الصيف بشكل تقريبي؟
- في أفضل الحالات (50) ريالاً يعني حوالي (130) دولاراً..
- وكم هو الحدّ الأدنى لمستوى المعيشة في عُمان؟
- (1000) دولار..
صفنتُ لبرهة مفكراً، وسرعان ما قفز إلى ذهني سؤال لطالما طرحته على كل من قابلتهم هنا:
- هذا يعني أنه يوجد لديكم فقراء كُثُر بالرغم من أن بلدكم يُعّدُّ من بلدان الخليج الغنيّة قياساً بعدد سكانه القليل (حوالي 4 مليون نسمة)؟
- نعم للأسف، الفقراء موجودون في كل مكان. ويمكنني القول بأن شريحتهم في عُمان تتجاوز ثلث عدد السكان.
- أووه، وكم عدد أفراد أسرتك يا أخي؟
أجابني وهو يطفئ سيجارته:
- سبعة أولاد.. بالمناسبة، أنا لم أتعرّف على حضرتك بعد، هل أنت سوري؟ إن لهجتك تشير إلى ذلك..
- نعم، ومن اللاذقية إن كنت تعرفها.
ردَّ وهو يتهيّأ للدخول إلى بهو الفندق:
- لا لم أزرْها. واسمحْ لي بهذا السؤال الأخير يا شيخ، ما هي نسبة الفقراء لديكم في سورية؟
مشيتُ الهوينى إلى جانبه وأجبتُ بعد لحظة صمت:
- ممم، قبل الأزمة كانت نسبتهم بصراحة تقترب من الـ 44%. أما الآن، ومع بداية النهاية للكارثة التي ألمّت بسورية، فإنه يمكنني القول وبثقة تامة ومن دون تلكّؤ، بأن نسبتهم لا تتجاوز إطلاقاً الـ 85% كحدّ أقصى..
ابتسم وقد فطن إلى سخريتي في القسم الأخير من إجابتي.. فقال مواسياً باختصار:
- الفقير هو فقير العقل والدين يا شيخ.
أجبته وأنا أودّعه بعد أن تمعّنت بوجهه الأسمر النحيل الضارب إلى الصفرة:
- بل الفقير، هو من يرضى أن يبقى فقيراً وأمام عينيه مستغِلّوه ينعمون بسرقاتهم ومنهوباتهم، ويرتعون في خيرٍ عميمٍ، ولا يرفع صوته محتجّاً عليهم، كحدّ أدنى من الإيمان.