«يوليوس قيصر» لهاندل: قليل من السياسة كثير من التحليل النفسي
إبراهيم العريس إبراهيم العريس

«يوليوس قيصر» لهاندل: قليل من السياسة كثير من التحليل النفسي

من مسرحية شكسبير التراجيدية - التاريخية الكبرى، الى النص المسرحي الساخر الذي كتبه جورج برنارد شو، وصولاً الى المسرحية الشعرية الرائعة التي كتبها أمير الشعراء العرب أحمد شوقي عن «مصرع كليوباترا»، مروراً بعشرات النصوص القديمة والأقل قدماً، فتنت شخصية الديكتاتور الروماني يوليوس قيصر الكتّاب والفنانين في شكل يصعب اليوم فهم كل أبعاده.

في هذا الإطار، نعرف طبعاً أن شكسبير لم يكن الأول ولن يكون الأخير بين أولئك المبدعين الذين رأوا دائماً أن في امكانهم أن يقولوا أشياء كثيرة من خلال الكتابة عن هذه الشخصية، لكن شكسبير كان أفضل من أضفى على يوليوس قيصر، طابعاً فيه مقدار من الانسانية، وأفضل من ربطوا السياسة والحكم بالسيكولوجيا الداخلية للشخصية، ناهيك بأنه كان من أوائل الذين حولوا حكاية ذلك القيصر الى حكاية حب. ومع من؟ مع كليوباترا التي كانت في زمانها - وفق شكسبير على الأقل - شخصيته لا تقل اشكالية عن شخصية العاهل الروماني، ولا تقل عنه ربطاً للسياسات الكبرى بالعواطف الشخصية. من هنا، حين كان مبدعو عصور ما بعد شكسبير يتطلعون الى تقديم أعمال لهم، مسرحية كانت أو موسيقية، ولاحقاً سينمائية، تتحدث عن يوليوس قيصر، كانوا يُجمعون على أن المرجع يجب أن يكون شكسبير، لا كتب التاريخ ولا المذكرات الشخصية ولا حتى التفسيرات العلمية والفلسفية لمسألة الحكم وقوة اللغة الديماغوجية، من خلال استعراض حياة يوليوس قيصر ونهايته. والموسيقي الألماني الكبير هاندل، لم يشذ عن هذه القاعدة حين كتب في العام 1724، أي وهو في ذروة مجده، اوبرا «يوليوس قيصر»، والحقيقة أنه ما كان في امكانه - حتى لو أراد - ألا يقتبس من شكسبير، هو الذي كان يعيش ويعمل في لندن في ذلك الحين، ويرى بأم عينيه مدى شعبية وأهمية شكسبير ومسرحه في فنون هذه المدينة وتاريخها.

إذاً، كان من الطبيعي لهاندل أن يلجأ الى النص الشكسبيري، ولو في شكل موارب، ما أسفر في النهاية عن عمل يمزج بين الهوى الفكري الانكليزي، والجذر الموسيقي الألماني العقلاني، من ناحية، وبين النمط الايطالي في كتابة الموسيقى الأوبرالية من ناحية أخرى. ذلك ان هاندل، على رغم ألمانيته، كان يعرف أن المزاج العام للجمهور يسير في اتجاه التجديدات الصاخبة التي كان فنانو الأوبرا الايطاليون يرسخونها. وهكذا، في عمل واحد، تمكن هاندل من أن يجمع تراث أمم ثلاث. وكانت النتيجة مدهشة حقاً. أما لماذا نقول ان هاندل استعان بنص شكسبير مواربة، فالسبب هو أن الموسيقي الأجنبي - في ذلك الحين - اشتغل في موسيقاه على أساس نص شعري مقتبس من شكسبير حققه مواطن هذا الأخير نيكولاس هايم، علماً أن هذا الأخير، حين كتب النص، نسخ الكثير من الصفحات الميلودرامية، عن تفسير حققه ميتاستاس، للنص الشكسبيري، بمعنى أن في إمكان النقد أن يقول ان أقوى ما في الأوبرا، يدين الى ميتاستاس، أكثر مما يدين الى هايم. غير أن هذا لا يغير في الأمور شيئاً، اللهم إلا اذا أخذنا في الاعتبار أن العمل الذي كان، لدى شكسبير، سياسياً في امتياز، يركّز على ديماغوجية السياسيين وقوة الإقناع اللفظي، وهوائية الجمهور وتمسكه بأهداب الفصاحة مغلّباً إياهـا على الواقـع التاريخـي، أضحى هـنا، في أوبـرا هـانـدل، عـمـلاً ميلودرامياً خالصاً يمزج بين الحب والغيرة، بين البطولة والخيانة، وبيـن النـفاق والسـياسة.

طبعاً في هذه الأوبرا لدينا كل العناصر الحدثيّة التي نجدها في مسرحية شكسبير، ولكن مع مقدار لا بأس به من التعديلات. فهنا يبدأ الحدث بوصول يوليوس قيصر امبراطور الرومانيين الى مصر بعدما كان حقق انتصاره الكبير على بومبيوس، إثر المعركة الضخمة التي دارت في الفرزل... وكان الانتصار مزدوجاً، اذ خلاله قام بعض أهل البلاط في الاسكندرية باغتيال عدوه الشرس. ومن هنا، حين وصل قيصر الى مصر غازياً، كان مرتاحاً، من ناحية الى انتصاراته، ومن ناحية أخرى الى ما استشعره من ولاء محلي له. وهكذا، تتحول الأوبرا هنا لتصبح أشبه بمجابهة بين مجموعتين من الأشخاص، وبالتالي بين مجموعتين من العواطف والمواقف. فمن ناحية لدينا يوليوس قيصر نفسه وكورنيليا أرملة بومبيوس وابنها سكستوس. ومن الناحية الثانية، لدينا بطليموس وقائد عسكره آخيلاس. وهذان الاثنان يبدوان لنا أول الأمر حليفين تجمعهما رغبة مشتركة في السلطة. غير أنهما اذ يغرما لاحقاً، وكل على طريقته بالأرملة كورنيليا، يجدان نفسيهما على خلاف ثم على صراع يزيل كل منهما خصمه بموجبه. وهنا على أثر ذلك الصراع القاتل تصبح كليوباترا، أخت بطليموس، ملكة على مصر، يساندها يوليوس قيصر نفسه في ذلك... في الوقت الذي تسود في مصر، ثم وصولاً الى روما نفسها، إشاعات عن موت الامبراطور. وطبعاً، يكون الجمهور عارفاً بأن يوليوس قيصر لم يمت، وعلى الأقل بالطريقة التي سرت بها تلك الإشاعات. ذلك اننا نعرف، منذ مسرحية شكسبير الأصلية أن ما حدث شيء آخر تماماً. غير أننا هنا، في حضرة عمل هاندل، نبقى عند تلك النهاية الملتبسة لأوبرا، كان يجدر بالموسيقي الألماني الكبير أن يطلق عليها اسم «يوليوس قيصر في مصر» بدلاً من ذلك الاسم الفضفاض الذي يوحي بعمل يضم سيرة القيصر المعروفة كلها. بيد أن هذا لا يبدو هنا كبير الأهمية أمام عمل كانت الموسيقى، لا السرد التاريخي، أهم ما فيه، حيث ان التجديدات الموسيقية التي حققها هاندل في هذا العمل بدت فائقة الأهمية، وجديدة الى حد كبير على الأذن الانكليزية. وهي، كما أشرنا، تجديدات تسير على النمط الايطالي، الذي يبدو أن هاندل استقى بعض أهم أجوائه من أوبرا سابقة عن الموضوع ذاته، كان الموسيقي الايطالي فرانشيسكو كافالي (1602 - 1676) لحنها، وكانت في حينه معروفة، وعنوانها «الازدهار التعس لجوليو تشيزاري، ديكتاتوراً». ولئن كان من المرجّح أن هاندل عيّش أوبراه في جو أوبرا كافالي هذه، فـمن المؤكد أنه عاد وتجاوز ذلك «الأصل» من بعيد، اذ خلف عملاً اعــتبر في ذلـك الـحـين نادراً، ولا سيما من حيث تتابعية الأجـواء وتعـبيرها المـفـرط عـن جـوانـبه الشخـصيات. وكأن هانـدل شاء هنـا، ليـس فـقط ان يتـجاوز الأوبرات الايـطـاليـة التي كـانت معـتـادة اللـعب على العواطف الدرامية فقط، بل كذلك قـوة التــعبير المرتبطة بــذلك النـص الشـكـسبيري نـفـسه. ويتجلى هذا، بصورة خاصة، في لحظات المصاحبة الأوركسترالية - وهي كثيرة - حيث كان يبدو وكأن الموسيقى العاطفية التعبـيرية، تتـجاوز قـوة اللـغة والحوارات والنصوص الشعرية، ولا سـيما في التـأثير الـدرامي في المـســتمعين. وفي كلمات أخرى: أتـت الألـحـان، فـي ارتـباطـهـا بـمـا كان يـسـمى «اللون الســائد» من أرقى الأنواع الموسـيقـية، لتتجاوز أطر التعبير المتعارف عليها في ذلك الحين في مثل هذه الأعمال، الى درجة أن ناقداً كتب لاحقاً يقول: «لو أننا نقدم موسيقى هاندل هذه من دون أي مسرح أو غناء، كقطعة موسيقية، لكنّا أمام عمل تعبيري من نوع نادر، حتى في الموسيقى السيمفونية الكبرى». أي ان الموسيقى أتت هنا لتقول ذاتها، أكثر مما لتقول النص. وهذا ما أسبغ على العمل وحدة فنية استثنائية.

حين لـحن غـيورغ فـردريـك هـانـدل (1685 - 1759) أوبـرا «يـوليـوس قـيـصر»، كـان في التاسـعة والـثلاثـين من عمره وكان بدأ يشتهر على نطاق واسع في طول أوروبا وعرضها، ما أوصله الى القصر الملكي البريطاني ليصبح من كبار الموسيقيين في بلد كان يفتقر الى هذا النوع من الكبار. والحال أن «يوليـوس قيصر» كانت واسطة العقد في مسار هاندل الفني، الذي قاده، دارساً ثم أستاذاً ثم مؤلفاً في القصور، من بلد الى آخر. اذ إنه قبل هذه الأوبرا كان أبدع في أعمال كثيرة منها: «موسـيقى الماء» و «رينالدو» و «لوكريشيا» و «نيرون» و «آماديس» و «بيرينـيـس». أمـا، بعـد «يـولـيوس قيـصر» فتحمل أعماله عناوين تشكل علامات كبيرة في تاريخ الموسيقى مثل «مسيّا» ذلك الأوراتوريو السماوي الرائع، و «يوضاس الماكابي»، و «آلسست» و «آريان» وغيرها.

 

المصدر: الحياة 

آخر تعديل على الجمعة, 24 كانون2/يناير 2014 20:23