هل كان إنجلس ماركسياً؟

هل كان إنجلس ماركسياً؟

ولد كل من ماركس وإنجلس في ألمانيا الرينانية - بروسيا: ماركس في ترير 1818، وإنجلس في بارمن 1820. وكانت الحياة الثقافية فيها، رغم التخلف الاقتصادي، متأثرة بأفكار الثورة الفرنسية. بدأ ماركس وإنجلس حياتهما الباكرة كعضوين في حركة الهيغليين الشبان في برلين، وسرعان ما انفصلا عنها وانتقداها (كل منهما على حدة)، متأثرين بمادية فورباخ.

لمحة تاريخية قصيرة
كان لقاء ماركس وإنجلس الأول عام 1842 عرضياً وقصيراً. غادر إنجلس إلى إنكلترا في العام نفسه ليدير مصانع أبيه في مانشستر، وكان يعتبر نفسه شيوعياً قبل نحو سنة تقريباً من ماركس الذي انتقل إلى باريس في أواخر 1843 حيث تواصل لأول مرة في حياته مع حركة منظمة للطبقة العاملة. أما إنجلس فكان خلال ذلك وقبل ماركس قد انخرط عملياً في حركة الطبقة العاملة، وبدأ بحثه الذي تتوج بتأليف كتابه «أحوال الطبقة العاملة في إنكلترا» (لم ينشر حتى عام 1845)، كما وكتب في أواخر العام 1842 مقاله الهام «خطوط عامة لنقد الاقتصاد السياسي»، والذي كان له تأثير حاسم وانعطافي على انتباه ماركس لأهمية الاقتصاد السياسي وتوجهه نحو دراسته، ولم يأتِ لقاؤهما الثاني عام 1844 إلا وقد وجدا نفسيهما على وفاق سياسي تام وبدأت رحلتهما الرفاقية طوال العمر، وأخذا يؤسسان الماركسية كعلم.

دقّ أسافين قديمة وجديدة
إنّ المحاولات «الكاريكاتورية» لإظهار إنجلس وكأنه «المحرِّف الأول» للماركسية، ليست جديدة. ولا تخفى التوقيتات ذات المغزى السياسي لمحاولات الفصل التعسفي بين التوأمين المؤسسين للماركسية. بعد ثورة 1905 الروسية، زاد احتدام الصراع الفكري، وخوف البرجوازية من الماركسية وصعودها، ويجدر بالذكر أن لينين مثلاً في «المادية والمذهب النقدي التجريبي» (1908) دافع عن إنجلس ضد نقاده ومشوهيه. وعام 1917 ظهرت وانتشرت في باريس ترجمة فرنسية لكتاب بعنوان «المادية التاريخية لدى إنجلس»، كان قد ألفه عام 1912 الفيلسوف الإيطالي اليهودي رودولف موندولفو، والذي حاول فيه أيضاً تصوير إنجلس كمحرف لماركس. بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة، تكررت محاولات مشابهة، منها مثلاً مادة لإرفين بانز في 3 كانون الأول 1920 في جريدة تحمل اسم «الشيوعية» كان يشرف على تحريرها جورج لوكاتش، وهذا الأخير رغم أهمية بعض تنظيراته في مجالات معينة كالفن، إلا أنّه معروف بانتقاداته المبتذلة لإنجلس، من قبيل أن إنجلس «حاول أن يفرض الديالكتيك على مجال الطبيعة أيضاً وليس فقط على المجتمع» (!!). تكررت بعد ذلك كثير من المحاولات الأخرى وكانت تشتد بالتزامن مع الأزمات السياسية والصراع بين الاشتراكية والرأسمالية كإحدى الأسلحة الفكرية في الحرب الباردة.
نتيجة موضوعية
إنّ ماركس وإنجلس، عدا عن الأبعاد الشخصية والذاتية المتعلقة بخصوصيات كل منهما، إلا أنّ النظر للمسألة علمياً يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أننا أمام مؤسسي علم، كأي مؤسسين مساهمين في أي اكتشاف علمي جديد في التاريخ، حيث توجد ظاهرة معروفة جيداً، وهي أنّه كثيراً ما يتوصل عالِمان أو أكثر، إلى الاكتشاف العلمي الواحد نفسه، ولكن «كل على حدة»، وتكون نسختاهما من الإنجاز العلمي نفسه منفصلتين جغرافياً وزمانياً (والأمثلة من تاريخ العلم كثيرة). لكن يوجد عامل موضوعي يتعلق بقانونيات حركة التطور العلمي التي تجعل هضم و«استقلاب» مدخلات العلوم والتجارب البشرية المتبادلة على مستوى عالمي، وخاصة بعد عالمية الرأسمالية، تؤدي إلى مخرجات متشابهة، ولو اختلف وسطاؤها، وتعرجت طرق الالتقاء إليها.
الاختلافات موجودة بين ماركس وإنجلس، لكنها من قبيل التنوع ضمن الوحدة وليس الاختلاف بالمنهج، ولا الخلاف على صحة القوانين العلمية التي يثبت الواقع صحتها.
الماركسية كعلم متكامل العناصر (منهج وموضوع وقوانين وفرضيات) والمكونات (الفلسفة المادية الديالكتيكية والتاريخية والاقتصاد السياسي والشيوعية العلمية)، قد ساهم في صناعتها وصقلها كل من ماركس وإنجلس بشكل متلاحم ولا يمكن إسقاط أحدهما كمساهم أساسي فيها. والسؤال «هل كان إنجلس ماركسياً»، هو من هذه الزاوية يشبه بسخافته أسئلة من قبيل: هل كان نيوتن فيزيائياً؟ هل كان ماندلييف كيميائياً؟ هل كان داروين عالم تطوُّر وارتقاء؟ هل كان ميكافيللي عالِمَ سياسة؟ ... إلخ.
السؤال من زاوية العلمي – السياسي
من زاوية أخرى، سياسية، يتعقد الموضوع أكثر، فإنّ أسئلة من قبيل هل كان إنجلس ماركسياً، أو حتى هل كان ماركس ماركسياً؟ إما أن يكون سؤالاً بريئاً وجدياً من جانب الجهل النسبي المتواضع – ولا عيب في ذلك - الساعي بصدق وراء إجابة علمية حقيقية، والتواضع بالقبول بهذه الإجابة أياً تكن بعد تبين الحجج التي تثبتها، وإلّا فإنه سؤال من قبيل الجهل العنجهي السطحي، أو من قبيل الخبث البرجوازي المتعمَّد والتضليلي والمعادي، ليس للماركسية سياسياً وعلمياً فحسب، بل وللعلم عامة وبالتالي للبشرية ومستقبلها ككل.
هذا السؤال يحمل تشابهاً مع أسئلة من قبيل: هل كان لينين ماركسياً؟ هل كان ستالين ماركسياً – لينينياً؟ هل كان تروتسكي ماركسياً؟ هل كان تروتسكي ماركسياً – لينينياً؟
نعتقد أنّه يمكن وضع إجابات صحيحة علمياً على مثل هذه الأسئلة، بتطبيق معايير علمية واضحة: يصح الحكم بانتساب أي تلميذ أو عالم أو باحث إلى مدرسة مؤسس العلم المعني، بشرط التزامه بالمنهج العام لذلك العلم، والالتزام بقوانينه المكتشفة من جانب المؤسس، إذا أثبتت الشروط التاريخية الخاصة المعاصرة للتلميذ بأنها ما تزال سارية المفعول، وإلا تترك القوانين المنتهية الصلاحية، وتعاين وتبحث الفرضيات الجديدة ليؤخذ منها تلك التي تثبت الحياة والتجربة صحتها وبالتالي تصبح قوانين جديدة مقبولة (حتى لو كانت نقيضة في صيغتها لقوانين زمن المؤسس)، وبذلك يصبح التلميذ لا سائراً جامداً على درب الأستاذ، ولا ناسفاً عدمياً لتقاليده، بل يصبح مطوراً حقيقياً وصحيحاً للعلم (يمكن أن تستخدم صفة القويم أو «الأورثودوكسي» للدلالة على هذا المعنى)، ومن بعد هذا التلميذ-الأستاذ المجدِّد، يصبح مقياس درجة علمية نسب أي إنسان، يدعي انتسابه لمدرسة العلم المعني، مرتبطاً بمدى التزامه بالمعايير العامة التي ذكرناها أعلاه مطبقة الآن على المستوى الجديد الأعلى من هذا السلّم التطوري اللولبي الصاعد، وهكذا دواليك.
كان لينين ماركسياً ومطوراً قويماً للماركسية، وتروتسكي لم يكن ماركسياً (على الأقل لأنّه – على عكس ستالين - استمر في رفض التطوير اللينيني للماركسية في مسألة إمكانية بناء الاشتراكية في بلد واحد، والتطور السياسي والاقتصادي المتفاوت في ظل الرأسمالية، رغم تحولها إلى قوانين علمية أثبتت التجربة التاريخية صحتها في عصره وأمام عينيه، فكان بذلك رجعياً علمياً وسياسياً).
هذا يساعدنا على التبصر بشكل أوسع في المحاولات التاريخية والمتجددة للفصل بين ماركس – إنجلس – لينين – ستالين، كحلقات في سلسلة التطور القويم للماركسية، ليس من باب القول بالتنوع ضمن الوحدة، بل لغايات سياسية ومعادية لأي تقدم علمي وعملي قد يقود إلى خلاص البشرية من الرأسمالية، عبر ترويج الادعاء بالتناقض والقطيعة بين حلقات السلسلة، في محاولة لتسديد ضربات تدميرية لمفاصلها التي تعطي جسمها التماسك والمرونة في آن معاً.
إنّ تجدد الهجوم على إنجلس والتشكيك في «ماركسيته»، ما هو سوى استهداف برجوازي إضافي قديم-جديد يضاف إلى استهداف الحلقات الأخرى في السلسلة، ولا سيّما استهداف أواخر منصاتها المعرفية العالية، مثل تشويه ستالين بإظهاره «مجرماً» و«جامداً عقائدياً»، أو تشويه تشي غيفارا بإظهاره «ثورياً طوباوياً يقوده الحُلُم فقط دون العِلم»، وتشويه غرامشي من خلال ترويج التأويلات المثالية والتحريفية والرجعية لنتاجه الفكري الثوري، مع احتكار الإمبريالية في الوقت نفسه لاكتشافاته العلمية وتطبيقها لغايات معاكسة تصب في مصلحتها بإدامة وتعميق التلاعب بالوعي الاجتماعي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
816