محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

سلمان رشدي ضيفاً ثقيلاً على لغة الضاد!!

يندر أن نجد حالةً تُعبِّر عن المفارقة الفكرية والثقافية الكبرى التي نعيشها خيراً من الأسلوب الذي بدأ به أدب سلمان رشدي «التسلل» إلى اللغة العربية، بعد طول منع وتحريم، مما جعلنا نستهلُّ حديثنا بعنوان ملتبس ومليء بالمفارقة، فسلمان رشدي قد حلَّ أخيراً ضيفاً على لغتنا، بعد أن صدرت ترجمة ثلاث من رواياته عن دار التكوين بدمشق، ودار الجمل ببيروت، ولكنه حلَّ كضيف ثقيل ومرهِق، والجهود الكبيرة التي بذلتها دارا النشر، ومترجما الروايات لإفراد حيِّز لأدب رشدي، بكل غناه وعمقه وتعقيده، ضمن بنية لغة أرهقتها قرون الانحطاط الطويلة، تلك الجهود لا يُتوقع لها أن تلقى شيئاً من التقدير والرضى في بيئة ثقافية ضاقت وتجمدت إلى درجة أنها ستعاني كثيرا جداً قبل أن تنجح (إذا قُدِّر لها النجاح أصلاً) في استيعاب ذلك الوافد الجديد غير المرغوب به.

يمكننا أن نلحظ المفارقة على مستويين أساسين: يتجلى المستوى الأول في تقديم جزء من أعمال صاحب «الآيات الشيطانية» ضمن الشرط الثقافي والفكري الذي نعيشه، فإذا قارنَّا بين وضعنا الثقافي الراهن، وبين الجو الذي كان سائداً في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، عندما أثارت «الآيات الشيطانية» ضجةً كبيرةً استمرت لعدة سنوات، نجد أن شراسة الهجمة التي شنت على الرواية ومؤلفها، بكل عنفها «الفكري» والمادي، وبكل ما رافقها من تهديدات وفتاوى دموية، لم تمنع عدداً من المثقفين الكبار (من وزن سعد الله ونوس، وممدوح عدوان، وصادق جلال العظم... وغيرهم) من إصدار بيانهم الجريء حول ضرورة «الدفاع عن حق الكاتب بالحياة... والكتابة» الذي نشر في جريدة السفير اللبنانية في عام 1989، وكان من آخر انجازات جيل كامل من المثقفين استطاع بفضل عمله الثقافي الطويل، والمعارك الفكرية الكبرى التي خاضها في عقدي الستينيات والسبعينيات بشكل خاص، أن يوسع الحدود الضيقة التي خنقت الثقافة العربية طيلة قرون عديدة.
الآن، بعد عشرين عاماً على صدور ذلك البيان، وبعد أن فقدنا عدداً كبيراً من الموقعين عليه، يحقُّ لنا أن نتساءل: هل لدى نجوم وسطنا الثقافي الحالي ما يقولونه، ترحيباً، أو نقداً، أو نقاشاً، لما سيحمله الوافد الجديد من أفكار ورؤى ودلالات؟ وإذا أثارت ترجمات سلمان رشدي ردود فعل سلبية لدى الأوساط المحافظة (في حال أفرجت الرقابة عن تلك الترجمات طبعاً) فهل سيتحرك وسطنا الثقافي للدفاع عن حق الكاتب بالحياة والكتابة، وعن حق القارئ العربي بالتلقي والقراءة؟!
المستوى الثاني للمفارقة، يتبدَّى في وضعية سلمان رشدي كضيف ثقيل على لغتنا، فأي مطَّلع على أعمال صاحب «أطفال منتصف الليل» و«العار» سيدرك مدى ارتباطها العضوي بالثقافة الإسلامية (وبالتالي باللغة العربية، لسان حال هذه الثقافة) وأهمية وعمق المعالجة الفكرية والأدبية التي أجراها على رموز تلك الثقافة ومضامينها، والاحترافية العالية التي أبداها في تفكيك سياقاتها، والتلاعب بعناصر مكوناتها البنيوية. وبالتالي فإن رشدي لا يمكن أن يكون مجرد ضيف على اللغة العربية، فهي وسط ملائم تماماً لعمله الأدبي، وهي معنيِّة بشدة بما يسعى لقوله عبر كتاباته، مثلها مثل «إنجليزية المستعمرات» التي كتب بها كل أعماله.
ورغم كل هذا، فإن الجرأة والعمق اللذين يبديهما رشدي يظهرانه بمظهر الضيف، والضيف الثقيل أيضاً، على لغتنا وواقعنا الثقافي، لأن مفرداتنا وتراكيبنا ومفاهيمنا قد فقدت منذ زمن رشاقتها وحيويتها، بعد أن ألفت التعبير عن السائد والسطحي واللا إشكالي، وبعد أن تخلفت قروناً عمَّا أعطته الثورات الفكرية المتتالية للغة من إمكانيات في الثقافات الأخرى. وهكذا فإن ترجمات سلمان رشدي ( رغم كل الانتقادات التي شكَّكت في دقتها وأمانتها منذ صدور طبعتها الأولى في الثمانينيات) تطرح تحدياً جدياً على ثقافة لم تثبت للأسف براعتها الشديدة في مواجهة التحديات.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار المضمون السياسي والاجتماعي لأدب رشدي، فإن التحدي المذكور أعلاه سيتحول إلى مأزق حقيقي، فرشدي الذي عرف بمواقفه اليسارية المناهضة للسياسات الإمبريالية، والداعمة لحركات التحرر في العالم، قد وظف كل براعته الأدبية والفكرية في سبيل كشف اغتراب إنسان العالم الثالث وهو يرزح تحت وطأة تراكب عدة مستويات من القمع السلطوي عليه، فوسط الأجواء العجائبية، والشخصيات الممسوخة والمشوهة التي يحفل بها أدب رشدي، يمكننا أن نكتشف كيف تتواطأ الأنظمة الديكتاتورية المحلية مع الخارج الإمبريالي، ومع السلطات الدينية والاجتماعية المتخلفة، لتنتج ذلك الإنسان المنتهك والمشوه والمكبوت الذي هو بكل بساطة... نحن!!
إن هذا المضمون الثوري في جوهره، سيضع بسبب عمقه وصراحته أدبنا وفكرنا العربي في مأزق جدي، لأنه سيمكَّن القارئ المتمعن من اكتشاف أساليب جديدة في طرح الأسئلة الكبرى ومعالجتها، لم يألفها في أغلب آدابه المحلية.
الوافد الجديد إلى ثقافتنا العربية مازال متربصاً بنا، ومصرَّاً على انتهاك راحتنا وسكينتنا الموروثة، فهل سنعرف كيف نستقبل هذا الضيف الثقيل؟ وهل من الممكن أن يصبح من أهل الدار في يوم من الأيام؟!! 

معلومات إضافية

العدد رقم:
405