جهاد أبو غياضة جهاد أبو غياضة

إشكالية الجسد في الفكر والثقافة

إن موضوع الجسد موضوعٌ شائك، فيه من التشعب والتعقيد الكثير مما ناقشه المجتمع والسياسة وعادات الناس، حتى أن العقائد والطقوس الدينية خاضت في غماره شكلاً وتعبيراً حركياً. وهو كذلك موضوع كثيراً ما أغرى الباحثين في سعيهم للحرية في أحد أشكالها وهو حرية الجسد. فالموضوع أخلاقياً ممنوع الكلام فيه، لكون فكرة الجسد مرتبطة بالمحرمات كالمرأة والجنس، وهو ما يقلل من قيمة الجسد وقيمة من يتكلم عنه.

الجسد مفهوم قديم يعود تناوله إلى الأساطير من حيث الفرق بين الجسد والجسم والبدن والجرم، فالفكر اليوناني وفكر القرون الوسطى ولاسيما الأديان، شطرت الإنسان إلى مكونين روح وجسد، للأول الخلود وللثاني الزوال، وهو ما أضعف من قيمة الحديث عن الجسد. ومن مفارقات ذلك الزمن الاحتفاء الكبير بالجسد، وبالمقابل ظهور رؤية استهلاكية له انعكست في نظام الرق والجواري. ومع تطور الحياة استطاعت العلوم الحديثة البحث والاشتغال بالجسد ومعرفة قوانينه، وبذلك أصبح مفهوم الجسد هو المفهوم المركزي في عصرنا الحالي، وأيضا لعبت الحركة النسوية دوراً هاماً في تقديم وعي جديد لمفهوم الجسد. كذلك كان للفن والأدب والشعر الفضل الكبير في إيلائه أهمية أكبر، فالثقافة العربية تربط مفهوم الجسد بجسد المرأة، ومعايير الحلال والحرام، والعورات وسترها وكشفها، والخوف والحيطة فضلاً عن المتعة والفتنة، ناهيك عن كون الخطاب الثقافي العربي يشوبه الخلل الكبير ليس في فهم الجسد فقط، بل بالمفاهيم المرافقة لوجوده وكينونته كالهوية والموطن .

أما الخطاب الفكري فتاريخياً وقع في أسرِ منظومة الأخلاق خلال بحثه في موضوع الجسد، وهذا خطأ، لأن الجسد بريءٌ بالأصل من القيم الأخلاقية فلا هو مقدس ولا مدنس، لكن القيم الأخلاقية هي التي ألصقت به، وهذا يعود إلى طبيعة المجتمع والثقافة الذكورية السائدة. الجسد وجد قبل منظومة القيم الأخلاقية التي وضعته في أسر هذه الثنائية القاتلة، وهو ما قاد لنظرة مغتربة عن الجسد، أدت لظهور تعنيف الجسد ولاسيما المرأة التي من الخلل صارت تنادي باللطف والكرامة والحرية الجسدية، فهل الجسد منفصل عن الإنسان؟ إذ لا حرية للجسد بينما هناك انتهاك لحرية الإنسان، فالجسد هو حاس ومحسوس، وهو موجود في العالم بشكل تواصلي حيث إن الجسد الذاتي لا يحيا دون التواصل مع جسد الآخرين، فله مشاعره الجسدية الخاصة المنجذبة إلى أجساد الآخرين فيما يسمى بالتواصل الجسدي، ومن هنا كان الجسد واللغة متكاملين فما تخفيه اللغة يظهره الجسد، وإذا كانت اللغة أداة إخفاء وتحايل فالجسد أداة تصريح وإعلان عن المسكوت.

أما عندنا كعرب، فلطالما تعاملت الذهنية العربية مع الجسد بوصفه أداة لذة أو مجرد مادة، وهو تعامل ينفي بأن الإنسان يوجد بداية كجسد قبل أن يوجد تفاعلاً حضورياً، وفهم الجسد ينطلق من الإنسان ككيان واحد مجسد موجود، طبيعي مادي وروحي، فالجوع والفقر و العمل الشاق يؤثر على الجسد، إذ ليس هناك جسد منفصل أو إنسان منفصل بل هناك إنسان له جسد.

إن دراسة موضوع الجسد غير ممكنة دون دراسة موضوع الإنسان، فالجسد موضوع يتسم بطابع وجودي وأخلاقي وجمالي وفلسفي، ولابد من إن نعيد له الاعتبار ولوحدته الضائعة انطلاقاً من مبادئ اللطف والكرامة والحرية كثوابت أساسية لا تتغير بتغير الظروف والأزمنة، ولذلك لابد من التخلص من أنواع العنف ضده سواء أكان رمزياً، أو مادياً، ولاسيما في أوقات الحروب والاحتلال .