الغناء السومري من الوثيقة إلى الآثار جذور الحزن الغنائيّ في العراق

لا أحد منا يعرف تاريخ ذلك اليوم الذي شرع فيه أول رجل في الغناء فلربما ـ وذات يوم موغلٍ في القدم ـ انتابت رجلاً ما أحاسيس غريبة، ربما بكى للوهلة الأولى،وربما رقص، وربما ضحك، لكنه كان متأكداً أن الضحك أو الرقص أو البكاء، لن تؤدي إلى ترجمة ما يحسه ،وما يعتمل في نفسه، وما يتلاطم في داخله من مشاعر غامضة ومشوشة، لذا اهتدى إلى الغناء من خلال دندنة ما، فاجتمع الناس من حوله، وأعجبوا كثيراً بأغنيته، وربما طلبوها مرة أخرى، مما جعله يشعر بالسعادة والرضا.

ولكن ما الذي قاله ذلك الرجل؟ من المؤكد أنه تحدث عن الحياة من حوله، وهو ما جعل المستمعين له يرون أنفسهم من أغنيته، وحتماً جرت منذ ذلك اليوم استجابة ما بين من يتعاطى الغناء والمستمع له، هذا على مستوى التخمين، ولكن الأمر يحتاج إلى الدقة مما يقودنا إلى علم الآثار الموسيقية، وهو من العلوم السيئة الحظ، والسبب في ذلك يعود لعدم العثور على آلة موسيقية صالحة للاستعمال، صحيح أن هناك عدة تجارب جرت على بعض الآلات الموسيقية إلا أنها لم تكلل بالنجاح.

ولكي نصل إلى الدقة يجب علينا الرجوع إلى سكان القسم الجنوبي من العراق السومريين، فبالرجوع إلى مخلفاتهم، يتبين لنا أن الكتابة السومرية مرت بمرحلتين، الأولى هي العلامة الصورية، الثانية هي العلامة المسمارية، وما يهمنا هنا هو العلامة الصورية، فهذه العلامة التي تعتبر من أقدم أشكال الكتابة السومرية، تبين أن الكاتب السومري إذا أراد كتابة شيء ما قام برسم صورته، والصورة التي تقودك إلى المعنى وهناك صفات وأفعال من الصعوبة بمكان إيجاد صورة تتلاءم معها، كلمة (إله) مثلاً اختار لهاالسومري صورة النجمة لتعبر عن هذه الكلمة، بما للنجوم من رفعة وسمو وهي صفات الإله أيضاً. وفي قاموس السومرية نجد أن المغني اسمه (nar) ويرمز له بعلامة رأس ابن آوى.

ومن خلال تحليل تلك العلامة نستطيع معرفة الغناء العراقي القديم، لكننا لا نستطيع معرفة الأغنية من حيث مقاماتها أو إيقاعاتها، والسبب في عدم المعرفة تلك يعود لعدم العثور على مخطوطات تتعلق بالموسيقا كعلم مستقل بذاته، وهذا ما يقودنا إلى التخمين بأن الموسيقا لدى السومريين كانت ترافق المغني أثناء غنائه، وتسد الفراغات أثناء سكوته، وتنتقل به من مقطع لآخر.

لنعد إلى تحليل العلاقة ما بين المغنى (nar) والحيوان المذكور (ابن آوى)، ولنأخذ الغناء البدوي مثالاً، لأن البداوة وبسبب بعدها عن المدن والأرياف ظلت محتفظة بطابعها الأول في كثير من تقاليدها، وفي الغناء مازال المغني البدوي يبدأ غناءه بكلمة (أوووه) ،وينهي آخر حرف من البيت الشعري بنفس الكلمة، ويطيل أو يقصر في مدها حسب مهارته الصوتية وحسب ضرورة اللحن. ولكن لو دققنا السمع جيداً، وعقدنا مقارنة مع صوت ابن آوى لوجدنا الشبه كبيراً جداً، وهنا نتذكر دقة الكاتب السومري.

كما هو معلوم أن الأغنية قبل أن تكون أغنية كانت بالأساس جنساً أدبياً: الشعر. ولدى السومريين لهجة أدبية نسائية تدعى (EME-SAL)، ولديهم نوعان من المطربين يغنون بلهجة (EME-SAL) هما مغني (الكالا) والـ(أما ـ أرا) وأود أن أشير إلى اللغة السومرية لا تفرق بين مذكر ومؤنث فكلمة مغني تعني :مغني ومغنية، وكلمة (أما ـ أرا) تعني حرفياً الخبير بإنزال دموع الآخرين، وهنا نستطيع أن نعقد مقارنة ما بين سكان القسم الجنوبي العراقي القديم وما بين سكانه اليوم، حيث نرى أن أقرب تأنيث لكلمة المغني (كالا) هي الـ(كواله) وهذه الكوالة موجودة الآن، وهي مغنية مأتم تبدأ غناءها بترديد لازمة تحفظها النساء من حولها وبعد ذلك تقرأ من الشعر ما يظهر محاسن المتوفى لتثير في سامعها الحزن والبكاء، مع مرافقة إيقاع منتظم بضرب الصدور بالأيادي، أما (أما ـ أرا) لدى سكان القسم الجنوبي العراقي الآن فهي أيضاً ذات صوت حزين وتحفظ الكثير من الشعر، وغناؤها يبدأ مثل العواء تماماً، وهنا نرى أن الغناء البدوي ما هو إلا امتداد لمدرسة الغناء السومرية.

وأخيراً أشير إلى أن المغني (nar) مغنٍ للأفراح، أما الكالا والأما أرا فهما للمناسبات الحزينة، كما هو الحال لدى سكان نفس المنطقة الآن.

■ ريسان محسن

آخر تعديل على الجمعة, 11 تشرين2/نوفمبر 2016 12:46