الكاتب الدرامي نجيب نصير: الدراما السورية من الحاضنة.. إلى غرفة العمليات!

يباغتك بالفوضى وببشاشة ريفي.. وبموقف حاد من كلمة «أستاذ».. يجهّز كافة الاستعدادات اللوجستية قبل بدء بالحوار بخجل لا يخفيه: القهوة، الماء، صحون السجائر.. لا ينتظر سؤالاً (ممنهجاً) ضمن مجموعة من الأسئلة المعدة مسبقاً ليشرع بالحديث، يقتحم الموضوع المفترض من زاوية ما، ولا يجد محاوره نفسه إلا وقد صار في اللجة..

نجيب نصير الصحفي، الناقد والسيناريست، مع كل ميله إلى الكسل، لا يقف موقف المحايد تجاه أي أمر في هذا العالم، ليس هناك، من وجهة نظره، ما هو صغير أو هامشي، بدا مرعوباً من أولئك الذين كانوا في مرحلة ما يتحدثون عن الأمة العربية، وباتوا الآن يتحدثون الأمة العربية والإسلامية!!

يقول نصير: «الصورة، تستخدم كافة أنواع الوسائل الحديثة لتكريس فكر ما أو (حقيقة) ما. لا شيء ينطق عن الهوى... توجد الآن 250 قناة تلفزيونية ناطقة بالعربية، القسم الأكبر منها قنوات دينية، وثمة نسق ثقافي متكامل يراد فرضه، وحين يبادر مثقف المنبر، على سبيل المثال، بالقول: «الأمة العربية والإسلامية»، يكون هناك حجر ناقص في هذا النسق، وجاء هذا (المثقف) ليضعه في السياق الجديد المطلوب..

أليس هناك من يساهم في ذلك دون قصد؟

 لا توجد أشياء عفوية في لعبة الصورة والصوت. ثمة محاولات حثيثة لمصادرة العقل، وهناك «مثقف» يقوم بذلك متعمداً. سابقاً كان المثقف ينتج السياسة، والآن، في زمن الصحوة الدينية، السياسة والفكر الإلغائي ينتجان مثقفاً وثقافة من نوع خاص، تبدأ بتكريس أفكار رجعية، وتنتهي بالتكفير وفتاوى القتل..

هناك من يقول إننا نقبل أن ينتمي المثقف إلى أحزاب اليسار معتبرين هذا أمراً عادياً وطبيعياً، فلماذا نرفض المثقف المنتمي للتيار الديني؟

 الانتماء السياسي هو مسألة حقوقية، والحقوق هي جزء من الثقافة، هي الوجه الأول للثقافة. ولكننا لا نستطيع رهن الثقافة بالحقوق أو بالمكتبات.

المشكلة أن الأصولية ليست دينية فقط، هي أصولية ثقافية أيضاً، ولكن هناك من يحاول عصرنتها، وحين يقال على سبيل المثال: الأمة الإسلامية، فهناك مغالطة متعمدة، فالأمة هي مفهوم حداثي علماني، فكيف يستوي الأمر؟

تاريخنا للأسف، مليء بالمؤامرات على مشاريع النهضة الثقافية ومحاولة إلغاء علمانية الأحزاب السياسية سواء كانت شيوعية أو اجتماعية أو قومية.

هكذا البعض يحاول الدفع باتجاه الغوغائية، الحركات الأصولية الإلغائية هي حركات غوغائية تشحن العاطفة وتدعو للخلاص الفردي، والمجتمع الحديث يتطلب الحديث عن الخلاص الجماعي.

كيف ينعكس هذا كله على الفن والأدب؟

 لن أتحدث عن الأدب، بل عن الفن، تاريخ الفن الحديث اعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أي الفترة التي أطلق عليها مجازاً: النهضة العربية، وأنا أعدها النهضة المجهضة الأولى، هذا الفن كان يسعى ليكون خيرياً، في محاولة تكتيكية ليتفادى التأثيم، وسار الفن على هذا النهج إلى ما بعد الخمسينات، أي إلى ما بعد موجة النهضة العربية «المُجهضَة» الثانية، وتحول هذا التكتيك إلى سمة للتطور الثقافي، والفنون الحديثة برمتها سواء أكانت رواية أو مسرحاً، والتلفزيون لاحقاً، بقيت تسعى لأن تكون فعلاً خيراً، للسبب نفسه، وأشبهها أنا بمثال قيام بعض النساء بالتطريز رغبة بالتسلية.. وبقي أبو خليل القباني، بالمعنى العميق، من وجهة نظر المفاهيم السائدة، هو رجل شاذ أخلاقياً، وكذلك أقرانه.

في كل العصور، ولدى الأمم جميعها كان التعامل مع المبدعين بصورة مشابهة تقريباً، عدا حالات استثنائية، ورغم ذلك راحت الفنون فيها تتطور وتأخذ شرعيتها.

 لم يجر التعامل مع هؤلاء كمبدعين، بل كمؤثمين، والمفارقة أن حالات الشذوذ الأخلاقية الحقيقية التي كانت وما تزال موجودة في المجتمع، يجري التغاضي عنها، أو التعامل معها بشكل أقل حدة.

القباني كان يتميز بكل المواصفات الحداثية والإبداعية، لكنه لم يكن يرق لمزاج الشيخ سعيد الغبرة مثلاً، والأخير كان فاعل خير، وبالتالي لم يعد بمقدور مبدع كأبي خليل القباني إلا أن يطرح فنه كمادة غايتها أخذ العبرة، ومايزال الأمر على هذه الشاكلة ونحن في عام 2007.

ليست الصورة على هذا القدر من السوء، هناك الكثير من التجارب الحاملة لهموم ومشاريع فنية نهضوية وحداثية لم تراع السائد، وما فتئت تصطدم معه.

 الآن إذا راجعت مقابلات العديد من المعنيين المفترضين بالفن تراهم يتكلمون مثل أبي خليل القباني بموضوع أخذ العبرة مع أنهم يعملون على أهم ابتكار حداثي في العالم وهو التلفزيون.

ألا ترى المسألة من جانب واحد هو المظلم والأسوأ.

 في العمل الثقافي ليس مطلوباً القيام بتصنيف المثقفين. لا أحد يصنف أحداً، ولكن ثمة صورة عامة طاغية..

مفهوم، لكنك سقت الجانب السلبي لتؤكد وجهة نظرك .

 أنا لا أحاول إقناعك بوجهة نظري، بل أطرح عليك تشخيصي للحالة القائمة كما هي فعلاً، من أتحدث عنهم هم كتاب وفنانون (؟) لهم تأثيرهم عبر المنابر التي يتسيدونها، وهم الأغزر في الإنتاج، وكل عمل (فني) يقدمونه يشاهده عشرات الملايين من الناس، ولا أحد من هؤلاء يلتفت لتقييمنا الموضوعي لهذا العمل أو ذاك، الغث يسود أكثر من السمين ويؤثر في الناس أكثر، لأنه أقرب إلى مفاهيمهم وقناعاتهم. الفن الحقيقي ما يزال يحاول الهرب من إثمه!

إذاً، هل الفن عموماً والدراما خصوصاً، بهذا المعنى، بحالة من المراوحة أو الموات؟

 الفن لا يمكن أن يموت. وهنا لا أقصد الفن بمفهومه الضيق، بل أعني الفن بوصفه ممتعاً وجذاباً ومسلياً، دون أن يعني ذلك فقر أو انعدام المضمون.. في أفغانستان الطالبان يعدمون الناس بسبب الغناء، ويعود الناس إلى الغناء! الفن لوثة وحياة.. الفنان الحقيقي يجب أن يكون مجذوباً، مأخوذاً بالفن.. الخطورة بالفن، وخاصة بالدراما التلفزيونية أنها تأتي ضمن منظومة ثقافية كاملة، إما أن تقوم بتكريس المنظومة الثقافية السائدة، وهذا الجاري حالياً، أو تسعى لهدم البالي منها بهدف السير بالمجتمع إلى الأمام، وهذا ما يحتاج إلى زمن طويل.

طالما المعادلة على هذا النحو، ألا يمكننا أن نقوم بالتأسيس لعمل جماعي منظم قادر على إلغاء هذه الخريطة، ووضع أسس خريطة مختلفة للدراما؟

 الموضوع ليس بهذه البساطة، والدراما التلفزيونية لم تستطع حتى الآن وضع أسس حقيقية لنفسها، يجري بناءً عليها فرز ما.

قد يكون الأمر كذلك، ولكن الدراما محكومة بمجموعة شروط وعوامل معروفة، منها الذاتي المتعلق ببنيتها وأغراضها، والموضوعي المرتبط بظروفها المحلية، والخارجية، كذلك هناك جملة من الآليات المتحكمة بالإنتاج الدرامي وتمويله وتسويقه، ومشاكل الرقابة . . هذه العوامل مجتمعة يمكن دراستها والعمل على تجاوزها.

 بداية يجب التأكيد أنه ليست هناك وسيلة إعلامية محايدة، الإعلام كله موجه ويحكمه أصحاب المال والإعلان وإيديولوجيات متناقضة، هذا هو المناخ المحيط بالدراما التلفزيونية، وهذه الدراما لم ترتكز جدياً إلى ما سبقها، وبالتالي حملت في طياتها اللا نهضة، فقد قفزت عن المسرح والكتاب وحتى السينما، واستطاعت أن تأخذ حيزاً في الإعلام، وضمن العادي والعبقري والمرتجل مساحة فيها، هذا من مستوى الصناعة، المستوى الآخر مستوى التلقي، وهو مستوى شرعي تفرضه الأخلاق والعادات السائدة، ومن غير المسموح (العبث) هنا... هذا هو الواقع.

ألا تذهب الدراما التلفزيونية أبعد من هذا؟

 نحن نتحدث عن الشروط، الدراما تخترق أبعد، ولكن ترافقها عقدة التأثيم!

الدراما السورية استطاعت أن تكسر بعض الحواجز، وربما اخترقت السائد في مواقع كثيرة.

 صحيح، بعضها تجاوز التأثيم. ولكن تبقى هذه تجارب قليلة استفادت من ظروف مؤاتية. مسلسل حارة القصر وأسعد الوراق وغيرها من بواكير المسلسلات السورية كانت ساذجة تقنياً، لكنها بالمقابل كانت على مستوى عال من الجرأة في المضمون لا يمكن مقارنتها بجرأة الدراما اليوم، رغم الفارق الزمني الذي يتجاوز الثلاثة عقود.

هل تعني أن دراما اليوم هي نسل عاق لدراما الأمس؟

 إنها من إجهاضات الثقافة. لا تنتمي دراما اليوم إلى دراما التأسيس لا تقنياً ولا فنياً. الدراما السورية انتقلت بعيد ولادتها من الحاضنة إلى غرفة العمليات أو الإنعاش.

أنت كتبت العديد من المقالات حول واقع الدراما السورية، مؤكداً على أن حضورها الكبير سببه خضوعها لسقوف الرقابات العربية من جهة، وانخفاض أجور الفنانين وكلف الإنتاج من جهة أخرى، متغاضياً عن كون هذه الدراما طرحت أفكاراً جريئة ومواضيع جديدة بطريقة مميزة شكلاً ومضموناً؟

 لا أعتقد أن هناك شيئاً يريد أن يقوله الكتاب أو المخرجون السوريون وقالوه. كل ما في الأمر أن هناك علاقات تذاكي، جميع العناصر الفاعلة في العمل الدرامي تتذاكى لتتفادى الاصطدام بالرقابات وشروطها.

أنت بهذا تتهم الجميع بمن في ذلك نفسك.

 طبعاً، نحن جميعاً نلعب اللعبة القذرة ذاتها، والنتيجة أننا ننتج دراما ضد الدراما. إذا اعتبرت التلفزة حقلاً حداثياً فعليه أن يقول قولاً حداثياً، وهذا لا يحصل. إن معظم الإنتاجات السورية متهافتة أو موجهة، والحقيقة أن (مسلسلنا السوري) هو بالإجمال تاريخي، حتى وإن كان لبوسه معاصراً، وغايته القصوى استعادة القيم التاريخية والأخلاق التاريخية.

لماذا تصر على النظر إلى التجارب المفرطة في السلبية؟ لدينا أمثلة كثيرة تخرج عن هذا التوصيف، ولدينا أكثر من عمل استطاع أن يطرح قضايا غاية في الحداثوية والاختلاف والتميز، وتاريخياً الحديث والمتميز يبدأ عند الأقلية وليس عند الأكثرية. لدينا بعض الشروط إذا أحسنا التغلب عليها، عبر دراسة حقيقية لوضع الرقابة ولوضع التمويل والشؤون الأخرى، ألا نستطيع أن ننجز اختراقاً انعطافياً في هذا السياق؟

 تأثيم الفن، وهو المشكلة الأولى أساساً، أدى إلى صمت أو هجرة المثقفين المعنيين بهكذا اختراق. المثقف الآن، ولا أدري إذا كانت تسمية (مثقف) صالحة هنا، محكوم بلقمته وظروف مجتمعه المنوط به احتضان الفن.. الفن بأحد جوانبه هو سلعة، والسلعة تحتاج إلى تسويق وترويج، لا أن تبقى محكومة بالتسول. الفن لكي يعيش، عليه أن يجد من يشتريه، الفن بحاجة إلى مجتمع يحفظه كسلعة استراتيجية، كضرورة حياتية. معاني الفرح والحلم والخيال هي ضرورة اجتماعية قصوى تشبه الأكل والشرب.

أليس غريباً أن صاحب محطة الدعوة، هو نفسه صاحب محطة الخلاعة؟ هل المطلوب من الناس المفاضلة بين ثقافتين لا ثالث لهما فإما الانحلال أو الأصولية الإلغائية؟

 الأولى ليست مشكلة، الثانية هي المشكلة!! هناك اختلاف زمني. على الأقل هيفاء وهبي تبعث على الفرح!! المشكلة أن الفن بمستوياته كافة لا يُرفض بل يُؤثّم ويُكفّر. أنا أحيي المورِّطين والمورَّطين بالفن الذين تغلق في وجوههم جميع الأبواب.

البعض أحنوا رؤوسهم لسقوف الرقابات، واليوم صاروا أسيري أنفسهم والرقابات الاجتماعية. والخلاصة أن الفن كسب عدواً جديداً..

ألا تعتقد أن هناك عملاً منظماً يسعى بدقة متناهية لضرب الدراما، بينما الدراما تعمل بشكل ارتجالي؟

 الدراما لا تعمل بشكل ارتجالي، بل بشكل ساذج!! هل تعلم أن يوم تصوير الدراما السورية هو يوم احتمالي؟ يعني يمكن أن تصور ويمكن ألا تصور؟ هذه دراما (هبلة)!!

قاسيون: كيف يمكن تجاوز كل هذه العوائق والهنات برأيك؟

 يبدأ الحل من الدراما ذاتها. باعتبار هذه الوسيلة الفنية هي وسيلة فنية قلباً وقالباً، وأن الفن ليس نصيحة، وكذلك ليس وسيلة إيضاح. الفن هو فعل مواعدة بين الفنان والمشاهد في المستقبل وليس بالماضي. الكل يعدنا بالقادسية وإرجاع الأندلس، بهذه التفاهة وبهذا التبسيط. علينا أن نذهب باتجاه الواقعية. فلنذهب إلى الطبالة أو أبو رمانة أو مشروع دمر لنبحث عن مشاكل الناس ونصيغها فناً.. المشكلة أن معظم مشاكل المجتمع غير مسموح حتى الآن طرحها على الشاشة..

المشكلة مشكلة مجتمع أم مشكلة نظام؟

 لا أعتقد أن النظام تهمه هذه الأمور.

والرقابة، ألا تمثل بالنظام؟

 الرقابة تمثل لوائحها فقط، وليست ممثلة للنظام. يأتيك الرقيب ويرجوك أن تلغي المشهد الفلاني باجتهاد شخصي.

 شركات الإنتاج السورية ماذا حل بها؟

 غيّرت مهنتها بعد أن فشلت في فهم أن الدراما هي صناعة، عملت بمنطق الدكاكين بينما كان يلزمنا أخلاق حداثية. هذه الدكاكين لم تستطع تكريس علاقات حوارية إبداعية. بعد فترة لم يعد الإنتاج يستحق المغامرة، فانسحبت.

 وزارتا الثقافة والإعلام والمؤسسات المعنية، ألم تقوما بدور؟.

 ليس لدينا مؤسسات لدينا دوائر. مفهوم المؤسسة الحداثي غير موجود. المؤسسات موجودة بالمعنى البيروقراطي فقط.

■ حاوره: جهاد أسعد محمد

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

آخر تعديل على الخميس, 17 تشرين2/نوفمبر 2016 19:20