مطبّات المواطن..

مات جدي أخيراً.. تخلص بالموت من كل أحلامه وآماله، لم يكن لديه كثير من الطموحات والأحلام، جلّ ماكان يتمناه قبر صغير في كرم العنب في قريته (عيون حور) في الجولان.

مات الجد متكئاً على وسادته القديمة، جالساً كنسر عجوز على فرشته الصوفية، بشارب أبيض مصفر من الوسط من التبغ العربي (اللف الحموي)، وبجواره طاولة صغيرة فوقها مذياع مهترئ حمله من عام /1967/، عندما كان يعتقد أنه سيعود بعد أيام ليحصد سنابل القمح التي كانت كما يقول «تغمر رجلاً واقفاً».

مؤشر الراديو المهترئ واقف من لحظة النكسة على تردد (إذاعة العدو)، حين كان يبث أسماء الأسرى والمفقودين، فقد ذهب ابنه البكر «عبد اللطيف» إلى الجيش لكنه لم يعد، وكان جدي مصراً أنه على قيد الحياة حتى بعد أن أخبره أحدهم أن ابنه قد استشهد بعد أن هاجمتهم طيارة معادية، وأنه دفنه بيديه. لقد كان متمسكاً بأحلامه، لا يريد أن يصدق ضياع أرضه وبكره.. ومات على اليقين نفسه، الرجل المعلق بالراديو المهترئ..

في عزلته، فقط فنجان القهوة المرة الدائم الحضور، ورغبة دائمة بعدم السامح لأحد من زواره أن يتفوه بكلمة عن الآن من الهموم الآنية، عما يدور خارج عزلته.. مات مع كل ماضيه، ذكرياته، روايات الشتاء الطويل والقاسي في الجولان، أغاني الحصاد، القرآن الذي تعلمه عند الشيخ صماً عن ظهر قلب، الزير سالم، حمزة البهلوان.. والسيرة العربية المليئة بالخداع والمؤامرات والعشق والخيانة «سيرة بني هلال».

ببساطة صمّ الجد أذنيه عن كل شيء.. عن الهزائم التي حصلت بعد النكسة، عن الاقتتال العربي.. حروب العصابات والقبائل والطوائف في لبنان.. زيارة السادات للقدس، ثم قتله في ذكرى حرب تشرين.. لم يسمع بحرب الخليج الأولى والثانية، وأحداث /11/ أيلول، وانهيار جدار برلين، وبناء الجدار العازل، وصعود حماس، والاقتتال الأهلي.. أغلق كل شيء عدا عزلته، أطول مشاويره إلى مركز الإعاشة. لم يشارك بفرح أو مأتم.. لم يصل رحماً، ببساطة مات مع نكسته.

لم يحالفه الحظ في ركوب باصات النقل الداخلي والانتظار طويلاً في الشوارع... لم يتعلق ببابه يوماً، لم يتدافع مع أحد عند الصعود وفي داخل الباص، عاش في بيت للأوقاف، ولم يبنِ جداراً مخالفاً، ولم يزر مبنى بلدية مرة واحدة، ولم يرش مهندساً أو محاسباً، لم يكتب تقريراً بأحد، لا يعرف معنى كلمة (الصرف الصحي)، ولم يسمع عن السقاية به، يعرف أن سنوات انحباس المطر تتالت، لكنه لم يرَ بردى في قبره الجديد، ساقية ملوثة وبقايا نهر كان هنا، محاطاً بأفواه القاطنين بسوار الفقر في محيط دمشق البائس..

لم يسمع بسعر طبق البيض /150/ل.س، كان يبيع البيض مقايضة بالدخان (اللفّ)، ولا بالبطاطا التي صارت بسعر (الموز) الذي توحمنا عليه في الثمانينات، وهي التي كانت تموت في أرضها في كرمه، ولا عن أزمة الماء، فحفر متر واحد كان كافياً لصعود الماء إلى وجه الأرض، وكان هناك مسيلات مائية، أنهر يسمع هديرها في الشتاء الطويل القاسي.. وكان الهواء نقياً. فالحمار لا يصدر دخاناً أو ثاني أوكسيد الكربون.. لذلك لم يسمع بمصطلح (الاحتباس الحراري)، ولا بتسونامي ولا بالأعاصير، بل كان يتنبأ بها كدليل على اقتراب الآخرة..

مات الجد أخيراً.. لم يسمع نقاشنا الطويل عن رفع الدعم وإعادة توزيعه.. وعن خطة الحكومة في ذلك. ولا التدافع على أبواب الكازيات.. ولا احتكارات السوق من التجار وحمى الغلاء.

ترى في كل هذا، من هو المواطن (X).. الذي مات بماضيه وآلامه وأحلامه، ولم يسمع بكل ما نعيشه.. منطوياً على ذاته بلا أبواب ولا نوافذ؟؟..

نحن فقط الذين نحيا في ظل كابوس الجوع والتصحر والاحتباس الحراري وكوارث الطبيعة، وانقطاعنا عن الماضي.. مع حاضر متعثر مفتوح على كل الاحتمالات.

المواطن X المنتظر الصبور لحافلة تقله إلى بيته القلق..

المواطن X حقل تجارب للسوق المفتوحة الاجتماعية..

المواطن X دخل محدود وبسطة بعد الظهر.. ونوم هادئ في انتظار المجهول..